تحتاج قضية الأحواز إلى أكثر من رؤية تتمدد في تفاصيلها وتتسع بها لتوضيح الرؤية الكاملة وتقديم بانوراما تعكس حقيقة المجريات الإثنية والدينية والحقوقية فيها، فهناك، على ما يبدو، خلط منهجي في التعاطي معها في وسائل الإعلام العربية يبتسر الحقائق ويحصرها في نطاقات ضيقة تتواضع بكثير من الحقائق وتشوّش عليها، وذلك ينطوي على عدم إنصاف للمجموعات التي تناضل من أجل حقوقها، فيما يسهم التناول المبتسر في تخريب صورتها واختطاف القضية بتهوّر وانحياز غير موضوعي لجانب محدد وإهمال بقية الجوانب.
ولعل مسألة الاختطاف للقضية أكثر ما يمكن أن يقلق ويحرم الجماعات الأحوازية من طرح قضيتها في سلة واحدة تعادل النضال الثوري والحقوق التاريخية والطبيعية لها في المنطقة، وإذا استمر الداعمون الذين يتغاضون عن الصورة الكلية في خطهم الإعلامي الحالي، فإنهم يسيئون إلى القضية ويفرزون المجتمع الأحوازي إلى كيانات تخدم الدولة الإيرانية على حساب القضية المصيرية للمناضلين الأحواز، الذين وقفت على عدد من الدراسات بشأنهم دفعتني إلى طرح القضية في سلسلة مقالات تستعرض جميع الجوانب بأقصى قدر من الموضوعية التي تخدم إيضاح المشهد الأحوازي دون مزايدات أو أفكار منحازة إلى هدف بعينه.
وفي الواقع ليست كل الأحواز على نسق عرقي أو مذهبي واحد، فهناك قوميات عربية وفارسية وغيرها من القوميات الصغيرة التي تشكّل في المنظور العام أقليات لها ذات الحقوق والواجبات في الإقليم الذي تنتمي إليه تاريخيا، وقد أطلقت الدولة الصفوية على إقليم الأحواز قبل 5 قرون اسم عربستان، غير أن السلطات الفارسية بعد احتلالها الإقليم العربي عام 1925 استبدلت اسم عربستان الذي يشير إلى عروبة المنطقة إلى اسم خوزستان، وتعود أصول عرب الأحواز إلى قبائل عربية أصيلة من مثل بني كعب وبني تميم وآل كثير وآل خميس وبني كنانة وبني طرف وخزرج وربيعة والسواعد.
والإقليم ثري بالموارد الطبيعية، وهو ما يفسر مساعي الدولة الإيرانية لتفريسه بكثير من الوسائل، حيث يضم نحو 85 بالمئة من مخزون النفط والغاز الإيراني، و35 بالمئة من المياه في إيران، وعملت الدولة الفارسية على تبديل أسماء المدن العربية في الإقليم واستبدلتها بأسماء فارسية منذ عام 1936، والقومية العربية في الإقليم أكثرها شيعة يتحدثون العربية والقليل منها سنيون، ومنذ سيطرة إيران على عربستان عام 1925، اتبعت سياسات تمييزية ضد العرب في التوظيف وفي الثقافة، فمنعتهم من تعلم اللغة العربية ومن استعمالها في المناسبات.
الجانب السيئ في ممارسة الدولة الإيرانية هو سعيها المحموم لتفريس الإقليم وتغيير هويته العربية، ويؤكد ذلك الرحالة الألماني كارستن نيبور، الذي جاب الجزيرة العربية عام 1762 بقوله: لا أستطيع أن أمر بصمت مماثل بالمستعمرات الأكثر أهمية، التي رغم كونها منشأة خارج حدود الجزيرة العربية، هي أقرب إليها، أعني العرب القاطنين الساحل الجنوبي من بلاد الفرس، المتحالفين على الغالب مع الشيوخ المجاورين، أو الخاضعين لهم.
السياسة الإيرانية اعتمـدت على مدار عقود أساليب وممارسات إقصائية للهوية العربية من خلال إغلاق كل المدارس العربية، وفرضت على السكان المدارس الفارسية، وأدخلتهم في سور حديـدي يحاصرهم وينتـزع هويتهـم، وذلـك مهم بالنسبة إلى دولة تسعى للسيطرة الكاملة على الإقليم وإثبات تبعيته لها، ولكن المؤسف هو الاختطاف العقـدي والإعــلامي للقضية بمنظور خاطئ من قبل بعض الطائفيين، بالتداعي لنصرة أقلية مذهبية دون سائر السكان رغم أصالة عرقهم العربي، وذلك لا يخدم إلا إيران ومحاولاتها المتكررة لتغيير الهوية العربية في الإقليم، وهؤلاء يقدمون لها خدمة كبيرة بجهلهم بواقع الإقليم وحقائقه وهو ما يستوجب التريث والتحرّي الموضوعي قبل الاندفاع في المسار الخاطئ… ونواصل.