تعتبر أذربيجان وحدة جغرافية وإدارية واحدة في المشهد التاريخي للمنطقة من القرن السادس قبل الميلاد إلى يومنا هذا. فـقد كانت آزربايجان منطقة تقاطع الطرق بين أوروبا وغرب آسيا. وبعد وفاة الاسكندر المقدوني تشكلت في القسم الشمالي لآزربايجان دولة ألبانيا وفي القسم الجنوبي دولة أتروباتين (مديا-آترباتانا). وحسب ستارابون (64 ق.م 24 ق.م) أن هذا الاسم مستمد من اسم أحد القادة والذي يعرف بـ “آتروبان”. وقد ورد هذا الاسم في المصادر السورية والبيزنطية القديمة ولاسيما في المصادر الفارسية بـ “أتروباتكان”، وفي المصادر العربية باسم “أذربيجان”. وفي النقوش الحجرية المسمارية للقرن السابع والثامن قبل الميلاد ذكرت أجزاء من هذه المنطقة بـ”آنديباتينو” و”آنديباتينا”.
في عام 1828 كانت آزربايجان من الشمال تشمل أجزاء من داغستان وجورجيا وأرمينيا وكافة أراضي جمهورية آزربايجان الشمالية الحالية، ومن الجنوب تشمل محافظات أردبيل وزنجان وقزوين وآزربايجان الشرقية وآزربايجان الغربية، لاسيما أجزاء من همدان وجيلان(گیلان)، وكذلك أجزاء من محافظة “مركزى” من جغرافية إيران الحالية.
ذُكرت آزربايجان في المصادر التاريخية للعصر الإسلامي، وكان يقصد بها جمهورية “أذربيجان” الحالية وكذلك آزربايجان الجنوبية المحتلة من قبل إيران. وفي فترات الحكم الإسلامي والتركي في المنطقة كانت آزربايجان الجنوبية تتمتع بحكم ذاتي، لاسيما في حقبة الامبراطوريات القديمة ، حيث كان لها حكم شبه مستقل عن هذه الامبراطوريات، وفي الكثير من الاحيان كانت لآزربايجان وضعية سياسية جيدة تتميز عن غيرها من المناطق في تلك الفترات من تاريخ المنطقة (إيران)، فعلى سبيل المثال كانت لآزربايجان مكانة متميزة سياسيا ً وإداريا ًوعسكرياً خلال فترات الحكم “ايلخاناني” والحقبة الصفوية وفترات حكم القاجاريين.
وفي عام 1552 ميلاي، احتل الروس دولة “قازان”(عاصمة جمهورية تترستان الحالية) واستمر زحفهم تجاه الجنوب، ومن خلال الحروب التي حصلت مع الدولة القاجارية احتل الروس أجزاء من الامبراطورية القاجارية وخاصة أجزاء واسعة من أرض آزربايجان التاريخية. ونتيجة لهذه الحروب عقدت اتفاقية “تركمن تشاي” بين نيكلاي الأول فتح علي شاه في 10/2/1828. ومن خلال هذه الاتفاقية أصبحت أجزاء من نهر أرس تحت سيطرة امبراطورية تزار، وأجزاء من الجنوب من ضمن دولة الممالك المحروسة التي تدار من قبل الأتراك القاجار. وبالتالي فقد قسمت هذه الاتفاقية آزربايجان إلى قسمين شمالي وجنوبي، وأصبح نهر أرس حدود إيران الحالية وروسية القيصرية (التزار) آنذاك، فالقسم الشمالي لآزربايجان الذي كان تحت الإدارة القيصرية أعلن استقلاله عام 1918 ميلادي والذي يعتبر أول جمهورية من بين الدول الإسلامية. وفي عام 1920 ميلادي احتلت آزربايجان من قبل روسيا البلشفية، لكنها احتفظت لنفسها بنظام جمهوري اشتراكي ضمن الاتحاد السوفيتي السابق. ثم ما لبث القسم الشمالي أن حصل على استقلاله بعد انهيار الاتحاد السوفيتي واختار هذا القسم لنفسه نظاماً جمهورياً عرف بـ جمهورية آزربايجان. أما القسم الجنوبي (آزربايجان الجنوبية) فقد كانت ضمن تركيبة الممالك المحروسة والتي يديرها القاجاريون وهذا ما جعل مصيرها يأخذ منحى يختلف كلياً عن القسم الشمالي.
مملكة آزربايجان تحتفظ بموقعها السياسي والاقتصادي:
كانت آزربايجان الجنوبية، وعاصمتها تبريز، مركزاً للتغيير فقد طالبت بتغيير النظام الإداري والسياسي والاقتصادي في تلك المرحلة، وبالتالي فقد تحولت إلى أهم التحديات التي تواجه حكام العاصمة الإيرانية، فقد لعب القسم الجنوبي لآزربايجان دوراً في التحول نحو الحداثة وتبني الخطاب الحديث في الطرح، والذي ما زال مستمر إلى يومنا هذا، على الرغم من الموانع والنظرة الضيقة التي يتبناها المثقفون الفرس في المركز(العاصمة)، حيث واظبوا على الحفاظ على مصالح الفئة الحاكمة وكذلك على ترجيح خطاب الأقلية على الأكثرية.
الإحصاء السكاني لآزربايجان الجنوبية:
من الصعب أن نتمكن من معرفة العدد الدقيق لسكان الشعوب في إيران الحالية، وذلك بسبب النظام السياسي المسيطر والتزوير الذي يحصل في الإحصاءات الحقيقية، ناهيك عن أن إحصاء السكان في إيران لا يتم على أساس قومي لأسباب سياسية. ولذلك فإن تحديد نسبة صحيحة لسكان آزربايجان بات مستحيلاً بسبب الظروف السياسية والانتشار الجغرافي للأتراك، حيث تفيد إحدى الإحصائيات الحكومية أن أكثر من 25% من سكان طهران وأكثر من 34% من سكان كرج وأكثر من 26% من سكان قم هم أتراك، لاسيما أن الانتشار السكاني للأتراك يمتد في الكثير من المحافظات الفارسية. لكن التمركز السكاني للأتراك في وحدة جغرافية واحدة يصل إلى 95% في الأراضي التاريخية لآزربايجان الجنوبية، ولذلك تفيد المصادر الذاتية أن الأتراك (القشقائي والآزربايجاني) في جغرافية إيران الحالية يفوق عددهم السكاني الـ 40 مليون نسمة. كما تتحدث الإحصائيات غير الرسمية أن الأتراك الذين يقطنون في آزربايجان الجنوبية بين 20-35 مليون نسمة.
الحقيقة التاريخية للأمة الإيرانية:
“منذ الأيام الأولى للحضارة العيلامية في الألف الخامس قبل الميلاد على ضفاف نهر قارون (كارون) الأحوازي، كانت جغرافية إيران الحالية أرض تقطنها عدة شعوب وتتحدث لغتها ولديها ثقافتها الخاصة”. (غيرشمن)
قبل الدخول في الحديث عن تاريخ “الأمة الإيرانية”، إذ صح التعبير، يجب الخوض في بنية النظام الفكرية ونمط التفكير الثقافي والسياسي ولا سيما التكوين الفكري للمثقف الفارسي. وبسبب التاريخ القديم لهذه المنطقة (إيران الحالية)، والمخاوف الأساسية لنظام البهلوي من هذا الواقع التاريخي تحتم على الفرس العمل على إيجاد أمة واحدة على أساس لغة واحدة وثقافة فارسية واحدة. يقول “برنالد لوئيس” في كتابه الهويات المختلفة في الشرق الاوسط: “إن اكتشاف إيران القديمة ثانية في الربع الثالث من القرن التاسع عشر مكّن المثقفين الإيرانيين من قراءة الأدب والبحوث الأوروبية مما فجأة انتبه أنهم لديهم “حضارة مهمة” في الماضي. مما يعني أن فكرة إيجاد أمة واحدة من حيث التاريخ والعرق والثقافة هي فكرة مستوردة من الغرب، حولها المثقف الفارسي إلى نظرية مستفيداً في ذلك من العداء تجاه العرب والأتراك ومن الموروث الفكري الفارسي القديم (بعد ظهور الإسلام) إلى حديث اليوم رغبة منه خلق تعريف جديد يتماشى وتطلعات القومية الفارسية. فالمثقف الفارسي اعتمد اللغة الفارسية لغة للبلاد كما اعتبر أن الإيرانيين هم العرق الأفضل (العرق الآري) معتمدا ًهذه القاعدة كأساس لـ “الأمة والحكومة الإيرانية”.
وبدأ الفرس بتزوير التاريخ السياسي وأرّخوا التاريخ والأدب السياسي الفارسي مؤكدين من خلاله أن العرب والأتراك هم غرباء ومحتلين دخلوا “إيران” ودمروا الحضارة المشرقة للآريين. وفي هذا التزوير والإبداع التاريخي، إذا صح التعبير، بيّن الفرس أن العرق الآري هو الفارسي والأساس في الامبراطورية الإخمينية التي أسست الحضارة والدولة الإيرانية. في الواقع، لو نظرنا للواقع الخفي لهذا الطرح نرى أنه جاء وفق التفضيلات الاستراتيجية والجيوبولتيكية لبعض الدول الاستعمارية في القرن التاسع عشر.
ومن الجدير ذكره أن الدبلوماسي والمؤرخ “السير جان ملكم” أول سفير لبريطانيا في زمن حكومة “فتح علي القاجار”، ألف كتابا ً تحت عنوان “تاريخ إيران” عام 1813. جاء هذا الكتاب دقيقا ًفي المرحلة التي كان على السياسية الاستراتيجية البريطانية أن تحتفظ بالهند للأهمية البالغة لهذه المنطقة، فكان من الضروري أن تكون إيران تحت الإدارة البريطانية، لذلك كان على بريطانيا أن تجعل من إيران المنطقة الحائلة بين الهند والرقباء، وخاصة روسيا، لتتمكن بريطانيا من الحفاظ على أهم مستعمراتها. وانطلاقا ًمن هذه الاستراتيجية تحدث السير جان ملكم للمرة الأولى عن إيران القديمة و”طرح نظرية مركزية العرق الآري”، وكان الهدف من وراء ذلك أن يبرهن أن “الشعب الإيراني” شعب يختلف عن الشعوب في الشرق الأوسط، “وكأنهم شعب الله المختار”!!. لكن الواقع التاريخي يختلف تماماً، حيث كانت هناك حضارات قائمة ولها تاريخ وآثار تتحدث عن وجودها في تلك الحقب من تاريخ هذه الشعوب قبل أن تأتي مجموعات بشرية من “الهند الأوروبية” وأخرى من آسيا الوسطى إلى هضبة إيران الحالية.
العرب يخرجون الفرس من العبودية:
خلافا ً للادعاءات الرسمية والأيديولوجية في كتابة التاريخ الإيراني، تحدث المؤرخون المحايدون أن قبائل الهند الأوروبية التي دخلت الهضبة الإيرانية إنما كانت قبائل متوحشة دمرت الحضارات القديمة التي كانت موجودة في المنطقة التي تعرف حاليا ًباسم إيران.
وواحدة من الأساطير في كتابة التاريخ الأيديولوجي الرسمي مبنية على أساس مقاومة “الشعب الإيراني” للجيش الإسلامي الذي دخل بلاد فارس محررا ً الأرض والإنسان من العبودية، ففي تلك المرحلة كانت إيران الحالية تحت الحكم الساسانيين، وكان النظام الطبقي الاجتماعي شبيهاً بالنظام الطبقي الهندي ” كاست”، حيث الإنسان الذي يولد في طبقة اجتماعية معينة يبقى في الطبقة ذاتها إلى يوم مماته. ومن جانب آخر ظلمت الطبقة الحاكمة الساسانية الزرادشتية تحت عنوان “اتحاد مغان دين زردتشتى” مما زاد من شدة التنافر وعدم قبول الطبقات الاجتماعية للساسانيين، فكانت طبقات المجتمع تنتظر المخلص أن يأتي ليخلصها من الظلم والتمييز العنصري الذي يمارس من قبل حكام فارس. ولذلك كان الدين الإسلامي المبني على أساس العدالة والمساواة أكثر قبولا ً لدى فئات المجتمع. والطريف في الأمر، يذكر المؤرخ “زرين كوب پيرنيا”، أنه عندما هاجم الجيش العربي الإسلامي مناطق الحكم الساساني لم يكن لدى الشعوب في تلك المناطق أي فائدة أو منفعة في الدفاع عن الحكم المتهالك”.
تأثير العرب والأتراك في تكوينة اللغة الفارسية:
من الادعاءات الأخرى لدى المؤرخين الإيرانيين ما يتعلق بلغة شعوب المنطقة. فخلافا ًلادعاءات العنصريين الفرس، فقد دخلت اللغة الفارسية جغرافيا إيران بعد مجيء الفرس، ويرجع الفضل في تكاملها للعصر الإسلامي حيث تأثرت القواعد والأسلوب الأدبي للغة الفارسية باللغة العربية. وفي الواقع، فقد تغيرت هيكلية اللغة الفارسية كلياً بعد دخول الفكر العربي والتركي إليها، فقد أخذت منحى يختلف عما كانت عليه في بداياتها. لكن العجيب في أمر هذه اللغة أنها تحوّلت منذ بداية القرن التاسع عشر إلى أداة في يد العنصريين الفرس لاستغلال الشعوب غير الفارسية.
لقد كان للّغات العربية والتركية والفارسية تاريخياً حضور قوي في كافة المستويات في جغرافية إيران الحالية، فعلى سبيل المثال كان للغة التركية في العصر الصفوي وجود سياسي أقوى من الفارسية والعربية، وللغة الفارسية حضور في الشعر والمجالس وأما العربية فكانت تعتبر لغة العلم والفلسفة والدين والأدب.
وهذا لا يعني أن اللغة التركية لم يكن لها وجود في المجالس والأدب، وإنما، من خلال دراسة عادلة، يتبين لنا أن كل إقليم من جغرافية ما تسمى إيران كان يتحدث سكانه بلغتهم الخاصة، وأن الظلم الذي أجبر الشعوب أن تتكلم بغير لغاتها كان حدثا ًجديدا ًبدأ مع السياسات الشوفينية العنصرية لرضا شاه البهلوي. وعلى الرغم من كل الحقائق التاريخية، سعى العنصريون الفرس إلى تطبيق نظريتهم أن اللغة الفارسية هي اللغة العامة لجغرافية إيران واللغات التركية والعربية هي لغات أجنبية يجب محوها كليا ً.
وفي هذا الخصوص يرى البرفسور الآزربايجاني علي رضا أصغر زادة “إن وجود العنصرية في إيران هي السبب المهم والحاسم في خلق التفاوت والتباين والتناحر وكذلك القمع الاجتماعي وعلاقات القوى غير المتكافئة. ومن خلال دراسة بعض من الكتب التاريخية والأدبية والدينية والسياسية ولاسيما المنشورات الرسمية وغير الرسمية المختلفة في إيران نرى أن الفرس يستخدمون الكتب الأدبية والتاريخية واللغة والنظام التعليمي كـ قاعدة وأسس الاستراتيجية لتبرير وإضفاء الشرعية على وضعهم المميز والحصري في المجتمع الإيراني الحالي المتنوع بشعوبه”.
استقلال الأقاليم واعتراف القاجاريين:
بعد دخول الإسلام لجغرافية إيران تأسست حكومات على أساس عرقي منها التركية والعربية… وكذلك الفارسية، لكن لم تتمكن هذه الحكومات من حكم كل هذه المنطقة التي تعرف اليوم باسم إيران. ولكن بعد مجيء البهلوية دُمّر هذا التعادل التاريخي الذي كان يسود في جغرافية إيران، حيث تتحدث الوثائق الحكومية القاجارية أنه كانت هنالك فترة تاريخية لإيران عرفت بحقبة الممالك المحروسة، فالنظام السائد في تلك المرحلة شبيه للنظام الفدرالي وكذلك الكونفدرالي بحيث الحالة الإقليمية الإيرانية الحالية هي الدليل القاطع على خصوصية هذه الشعوب التي تختلف عن بعضها بعض تاريخيا ًواجتماعيا ًوسياسيا ً.
إن وجود الأقاليم شبه المستقلة والمستقلة مثل آزربايجان والأحواز (عربستان) ولرستان وكوردستان في الحقبة القاجارية (طبعا ًالظروف السائدة في تلك المرحلة من تاريخ هذه المنطقة -إيران- والكثير من المناطق الأخرى في الشرق الأوسط والعالم عموما ً كانت تخضع الدول الضعيفة لبعض الدول القوية، وذلك لحاجة هذه الدول للمصادر الاقتصادية التي تحتويها أراضي المناطق المحتلة أو التي يتم ضمها لفترات معينة)، وما تحتوي هذه الاقاليم من ثروات طبيعية هائلة دفعت الحكومة البهلوية وبمساعدة بريطانيا لأغراضها السياسية أن تحتل هذه الأقاليم عسكريا ًوتنفذ قواتها الغازية جملة مجازر بحق أبناء هذه الشعوب الذين قاوموا المحتل الفارسي رفضا ًمنهم الانصياع لرغبات رضا شاه العنصري الحاقد. وقد أخذت السياسات البهلوية الوحشية أشكالا ً مختلفة بدءا ًمن ذبح أبناء الشعوب غير الفارسية وصولا ًلاغتصاب النساء والرجال والأطفال. فنظرية بناء الأمة الفارسية في إيران الحديثة تقوم على المجازر المروعة والقتل الممنهج، وكذلك محو الثقافة مع سياسة التحقير وإنكار الذات غير الفارسية، وفي المقابل تشجيع الذات الفارسية وإعطائها الصفة “الآرية” أهم الصفات التي تميزت بها هذه السلطات التي كان قوامها العنصر الفارسي المتشبع بالحقد والكراهية ليومنا هذا للمكونات الاجتماعية في جغرافية ما تسمى إيران.