فى دراسات علم الأجناس وثقافات الشعوب مدرسة (ضعيفة التأثيروالانتشار) ترى أنّ كل الشعوب تتشابه فى خصائصها الثقافية. ومدرسة ثانية (الأكثرتأثيرًا وانتشارًا) ترى أنّ كل شعب ينفرد بخصائص ثقافية تـُميزه عن غيره من الشعوب. ومن داخل تلك المدرسة برزعدد كبيرمن العلماء مثل (مارشال ساليز) الذى كتب ((هناك الكثيرمن الخلط نشأ فى الخطاب الأكاديمى والسياسى، حين لا يتم التمييز بين الثقافة بمعناها الإنسانى والثقافة بمعناها الأنثروبولوجى، باعتبارها نهجًا كاملا ومتميزًا لحياة أى شعب. إنّ ثقافة أى بلد تعكس تاريخه وأخلاقياته)) وكتب (كلود ليفى شتراوس) أنّ ((الإسهام الحقيقى لأية ثقافة لا يتكوّن من قائمة من الاختراعات التى أنتجتها، بل من اختلافها عن غيرها. فالأساس بالعرفان والاحترام لدى كل فرد فى أية ثقافة تجاه الآخرين لا يقوم إلاّ على اقتناع بأنّ الثقافات الأخرى تختلف عن ثقافته فى جوانب عديدة حتى وإنْ كان فهمه لها غير مكتمل، ومن ثم فإنّ فكرة (الحضارة العالمية) لا تـُقبل إلاّ باعتبارها جزءًا من عملية شديدة التعقيد ، ولن تكون هناك حضارة عالمية بالمعنى المطلق الذى درج البعض على استخدامه، لأنّ الحضارة تعنى تعايش الثقافات بكل تنوعها. والحقيقة أنّ أية حضارة عالمية لا يمكن أنْ تـُمثل إلاّ تحالفـًا عالميًا بين الثقافات تحتفظ فيه كل منها بأصالتها))
من هذا المُنطلق الواعى بأهمية الاختلافات الثقافية بين شعب وآخر، دافع مؤيدو هذه المدرسة عن حقوق الأقليات العرقية داخل مجتمع أغلبيته من أعراق أخرى، كالأكراد فى العراق وسوريا وتركيا، والأمازيج فى شمال إفريقيا إلخ. لذا كان العلماء المُدافعون عن الخصوصية الثقافية لكل شعب مع ضرورة أنْ تؤخذ رغبات الأقليات الثقافية فى التأكيد على هويتها الثقافية والتعبير عنها سياسيًا بصورة من صور الحكم الذاتى مأخذ الجد . ليس هذا فقط وإنما لابد أنْ يتمتـّع أعضاء الأقليات الثقافية بنفس الحقوق والحريات الأساسية، ونفس الحصانات الدستورية التى يتمتـّع بها سائر المواطنين. مع العمل على دعم التسامح والتعايش وتشجيع التنوع الثقافى. ورغم أنّ النوبيين مصريون بالثقافة والعمق التاريخى والجغرافى، إلاّ أنّ لهم لغة خاصة بهم يود المخلصون منهم الحفاظ عليها، فتنقلب الثقافة المصرية السائدة المنحطة عليهم وتتهمهم بأنهم يرغبون فى الانفصال عن مصر، مع اتهامات أخرى مثل العمالة لأمريكا. وهى تهم باطلة بحكم معرفتى بعدد كبير من النوبيين الشرفاء الفخورين بانتمائهم لمصر، مع تمسكهم بلغتهم ومجمل تراثهم الذى توارثوه عن جدودهم. وكان (ألفا أوما كونارى) رئيس جمهورية مالى عام93 صائب النظر عندما كتب إنّ ((إنكار الخصائص الثقافية لشعب من الشعوب يُعد نفيًا لكرامته))
وفى أوروبا فإنّ المنظمات الدولية المُدافعة عن حقوق الأقليات، تستفيد من نصوص قديمة مثل النص الصادرعام 1555(سلام أوجسبورج) عن حماية الأقليات الدينية. ومعاهدة (ويستفاليا) عام 1648والاتفاقية البولندية الروسية عام 1767وأخرى عام 1775 لضمان حقوق المُنشقين ببولندا. كما أنّ معاهدة فينا عام 1815منحتْ الأقليات الدينية حرية العقيدة والحقوق المدنية.
ومن أشد القضايا ذات الحساسية فى قضية التنوع الثقافى، قضية اللغة. فلغة أى شعب هى السمة الثقافية التى تميزه عن غيره. وكل لغة فى العالم تمثل أسلوبًا فريدًا فى رؤية التجربة الإنسانية. لذا فإن قضية اللغة هى فى مقدمة الحقوق التى تطالب بها الأقليات الثقافية. فمن حقهم تدريس لغتهم فى المدارس (كما تفعل أمريكا وبعض الدول الأوروبية) وكذا من حقهم أنْ تكون لهم وسائل إعلام خاصة بهم. ولكن هذا التنوع المطلوب ثقافيًا والمؤيد إنسانيًا يخضع لأشد أنواع القهر من أنظمة الاستبداد العربية. ومن هنا كانت مأساة الأكراد والأمازيج، وهى ذات المأساة التى يعيشها شعب الأحواز فى إيران. إنّ سكوت الأنظمة العربية لما يحدث لشعب الأحواز كشف حجم الرياء والكذب وهم يتشدقون ويتظاهرون بالدفاع عن الشعب الفلسطينى، لأنّ ما فعلته إيران منذ عام 1925وحتى ركوب خمينى وأتباعه الحكم مع شعب الأحواز هو بالضبط ما فعلته الصهيونية مع الشعب الفلسطينى . حيث احتلت إيران أراضيهم بالقوة. وأراضيهم فيها أكبر كمية بترول وغاز. ورغم أنهم (عرب وسنة) فإنّ الأنظمة العربية لا تـُبالى بهم، ولا بما يتعرّضون له من اضطهاد واعتقال النشطاء السياسيين وإعدامهم، وتمنعهم من الحديث باللغة العربية، لا فى الشوارع ولا حتى داخل بيوتهم. وأطلقوا على الإقليم اسم (خوزستان الإيرانية) ولأنّ الحزب الذى سرق اسم (الله) ممول من إيران فإنّ قادته يكتبون فى الصحف أنّ الأحواز ليست عربية (د. أحمد أبو مطر- الخطر الإيرانى- وهم أم حقيقة- ص 90، 91) وهكذا يتم التواطؤ بين إيران والأنظمة العربية والحزب سارق اسم (الله) بنفى خصوصية شعب الأحواز. ولأنّ الفكرالعروبى والإسلامى أحادى ، لذا لا يعترف العروبيون والإسلاميون بحق كل شعب فى الدفاع عن خصوصيته الثقافية، ويتجاهلون الحقيقة التى تؤكد على أنّ التنوع هو سر تقدم البشر، وهو ما عبّر عنه المفكر(كونور كروزا) الذى كتب ((مع أننا نشترك فى إنسانية واحدة، فإنّ هذا لن يجعل منا أعضاء قبيلة عالمية واحدة، فتنوع الجنس البشرى هو الذى يضرب بجذوره فى هذه الإنسانية المشتركة)) وكتب (كارلوس فوينتيس) أنّ ((من عجائب كوكبنا تعدد تجاربه وذاكرته ورغباته. وأية محاولة لفرض سياسة موحدة على هذا التنوع ستكون بداية النهاية)) وإذا كانت الأنظمة الشمولية ترفض أنْ تستخدم كل أقلية ثقافية لغتها، فإنّ دراسة ميدانية أثبتتْ أنّ 104بلدًا فيها لغتيْن رسميتيْن. وفى 15بلد يستخدمون ثلاث لغات أو أكثر. وانتهتْ الدراسة إلى أنه ((كلما بكرنا بتعليم الصغار باللغات الأخرى فى عالمنا متعدد الثقافات كانت النتائج طيبة)) وتوصى لجنة اليونسكو الدولية لتنمية التعليم بتنمية تعددية اللغات من أصغر سن مع تدريس لغات وثقافات وأديان عديدة))
ونظرًا لذاك الوعى بأهمية التنوع الثقافى، نظم نادى اليونسكو فى فرنسا فصلا عن مصر القديمة. وحضر تلاميذ المدارس الابتدائية دروسًا لمدة ثلاثة أسابيع فى متحف اللوفر، ليتعلموا فنون وعمارة وتكنولوجيات مصرالقديمة، وحياتها اليومية وطقوسها الدينية. وكانت النتيجة أنْ قرر التلاميذ أنْ يزوروا مصر لمدة أسبوع على حسابهم الخاص.
وما حدث فى فرنسا تكرّر فى معظم دول أوروبا، أى الإهتمام بدراسة الحضارة المصرية. وعن الطلبة الأمريكان كتب د. حسن بكر أثناء وجوده فى أمريكا (( الطالب الغربى عمومًا والأمريكى بالذات يدرس الآثار المصرية فى جميع مراحل التعلم قبل الجامعى بدقة تفوق دراسة أى طالب مصرى أو عربى لها. وقد أذهلنى حينما كنتُ طالب بعثة بالولايات المتحدة خلال عقد الثمانينات أنّ عديدا من الأمريكيين يحفظون مراحل تطورالحضارة المصرية عن ظهر قلب. وقد أوجعنى أكثر أنّ أحدهم تدخل فى مناقشة معنا فى النادى الثقافى المصرى ، فراح يعدد أسماء الأسر الفرعونية واحدة تلو الأخرى ووقفنا أنا وزملائى واجمين)) (أهرام 21/4/92) وكتب أ. صبحى شفيق أنّ أول كتاب يتسلمه التلميذ فى أوروبا فى المدارس الابتدائية على صفحته الأولى صورة لهرم زوسر المدرج وتحته ((أول حضارة عرفت استخدام الأحجار ذات الزوايا القائمة وأول صرح حضارى فى تاريخ الإنسانية)) (صحيفة القاهرة 22/11/2005)
وذكرتْ د. مرفت عبدالناصر أنها ذهبتْ إلى لندن لتكمل دراستها فى الطب النفسى . وكان لجارتها الإنجليزية طفل فى السابعة من عمره. سألته مرفت السؤال التقليدى ((تحب تكون إيه لما تكبر؟)) فكان رده عليها ردًا غيرتقليدى ((أحب أكون عالم مصريات)) هذا المشهد صاغته عملية وجود جراحية داخل وجدان د. مرفت فعبّرتْ عنه قائلة ((شعرتُ وقتها بألم عميق نابع من تلك الفجوة المعرفية بين ما أعرفه أنا عن هذا التاريخ وبين ما يعرفه الطفل الإنجليزى. فقد بدا لى وكأنه يعرف أسرارًا عن أهلى لا أعرفها. وأحسستُ وقتها أنّ هذا الطفل وربما أفراد الجنس الذى ينتمى إليه ، له الحق فى أنْ يشعر بتفوقه علىّ وعلى أبناء لونى. فهو ببساطة يملك المعرفة)) وبشجاعة نادرة تعترف بأنّ لقاءها بذاك الطفل كان ((نقطة تحول محورية فى حياتى)) نقطة التحول هذه كانت البداية لتخصصها فى علم المصريات بجانب تخصصها فى علم النفس. وكان المشهد الثانى الذى أحزنها وأبهجها فى نفس الوقت، عندما عرف سائق التاكسى الإنجليزى أنها مصرية، فأخذ يُحدّثها عن الحضارة المصرية. وعندما أبدتْ دهشتها قال لها أنّ أغلب الكتب فى مكتبته الخاصة عن مصرالقديمة. أما المفاجأة الثالثة فكانت بمناسبة الدعوة التى تلقتها لإلقاء محاضرة عن الطب النفسى. وفوجئتْ بأنّ تكريم رئيس الجلسة لها عبارة عن صورة كبيرة للبرلمان الإنجليزى وفوقها صورة كبيرة ل (ماعت) المُجنحة إلهة العدالة المصرية التى هى اليوتوبيا الممكنة لأنها رمز الاعتدال والانسجام والتناغم. ونقلت د. مرفت عن الشعر المصرى القديم (إذا ماتت ماعت ماتت مصر)) (لماذا فقد حورس عينه- قراءة جديدة فى الفكرالمصرى- دارشرقيات- عام 2005)
ورغم ما يحدث فى أوروبا وأمريكا من إهتمام بالحضارة المصرية، فإنّ التيار العروبى فى مصر يستنكردعوة تيار(القومية المصرية) للإهتمام بحضارة جدودنا وتعليم لغتهم فى المدارس والجامعات كما تفعل مدارس وجامعات أوروبا. ويُهاجمون كل من يكتب (بلغة العلم) أنّ مصر ليست عربية. وأنّ شعبنا يتكلم (لغة مصرية حديثة) كما ذكر المفكرالكبير بيومى قنديل فى كتابه (حاضرالثقافة فى مصر) وأننا مصريون بالثقافة القومية والتاريخ والوجدان. ويصل الشطط بالعروبيين (ومعهم الإسلاميين) إلى أنّ دعوة (القومية المصرية) تصب فى صالح إسرائيل. ولأنهم يكتبون بدون قاعدة معرفية، كما قال عميد الثقافة المصرية (طاها حسين) لذا فات عليهم أنّ أ. أحمد أمين كتب ((العرب أزالوا استقلال فارس. وحكموا مصر والشام والمغرب وأهلها ليسوا عربًا)) (ضحى الإسلام- ج1- ص76) ولأنّ الفكر الأحادى هو المُسيطرعلى عقلية العروبيين والإسلاميين، لذا لم ينتبهوا لحكمة الأب الروحى للشعب الهندى (المهاتما غاندى) الذى لخص الانفتاح على ثقافات العالم مع الاحتفاظ بخصوصية ثقافته القومية فقال ((إننى أرغب أنْ تهب على بيتى جميع ثقافات العالم، ولكننى أرفض أنْ تقتلعنى من جذورى إحدى هذه الثقافات)) صدق غاندى فى قوله الحكيم.