كثير منا شاهد أو سمع عن أفلام الرعب الزومبي – الأموات المتحركون أو القتلى الأحياء- شكل لأشخاص توقفت قلوبهم وأجهزتهم وأعضاءهم الحيوية عن العمل، حيث تبقى حركة أجسادهم الشيء الوحيد الباقي لهم من عالم الأحياء، فهم يسيرون بشكل بطيء جداً وكأنهم نائمون. المراد من ذلك في هذا المذكرات هنا سرد رواية أناس أشبه بالزومبي شاهدتهم بأم عيني.
بعد نقلي في 12 أغسطس 2009 من معتقل الاستخبارات السري، الذي يطلق عليه سجون الموت، إلى قسم رقم 6 في سجن كارون ذات الصيت السيء والسمعة المخيفة، حاولت التعرف على جغرافية وديموغرافية السجن، والاقسام المختلفة فيه، حيث كانت قد حكمت علي محكمة الثورة الإيرانية المكوث عقد من الزمن في هذا السجن ولأنه المكان الذي كان من المفترض أن أعيش فيه عدة سنوات غصبا.
بعد مرور عدة أيام منذ دخولي السجن، كنت أمشي في الممر الرئيسي داخل السجن، وشاهدت بعض السجناء كأنهم اشباح أو “زومبي” حيث يخشى الانسان النظر في وجوههم. شخصيات غريبة الأطوار ذات الألوان العجيبة، ينفردون بأوصاف مخيفة؛ الوجه أخضر اللون والأسنان بالية سوداء، العروق متشنجة والعيون مائلة إلى الاحمرار الشديد ويبدو ارتد النفر منهم عدسات لاصقة حمراء اللون، نحيلي الجسم قد طار اللحم وذاب الشحم، الظهور مقوسة والعظام بارزة، مسترخي المفاصل، لاصبي الجلد ومرتعشي اليدين وكأن هذا الشبح المخيف يمثل حقيقة الألم والعذاب للمواطن الأحوازي في سجون ايران.
تردي الأوضاع الصحية في السجون لا تفارق مخيلتي وحالة السجناء كانت تشبه جسد شخصٍ خرج من القبر بعد ايام من الدفن، كان هؤلاء النزلاء متميّزين عن سائر السجناء بشكل واضح. راودتني عدة تساؤلات وأثارت فضولي هذه الوجوه العجيبة من ثم سألت عن أحوالهم، فقال بعض النزلاء في القسم الخامس يطلق عليه “متادون” نسبة الى توزيع هذا العقار في في هذا القسم من قبل مسؤولي السجن.
لم أسمع عن هذه المادة من قبل، رغم انني كنت أعيش في حي يكثر فيه الاتجار بالمخدرات. المتادون (Methadone) عقار مخدر اكتشف في ألمانيا في عام ١٩٣٧ ويطلق عليه تجاريا اسم Dolophine مأخوذ من اسم أدولف هيتلر. استخدم هذا العقار منذ ١٩٦٠ وهو أحد الأدوية المصنعة كمسكن للألم ومن المسكِّنات القوية المضادة للمستقبلاتِ الأفيونية ومخفف للآلام في التعافي من إدمان الإفيون والهرويين والمخدرات الاخرى. ولكن اثبتت الأبحاث أن ضرره أكثر من نفعه، حيث تسبب هذه المادة انقباضات شديدة في الجهاز التنفسي وأضرار في الكبد والقلب، وضعفاً شديداً في قوة الباصرة و … إلخ، ناهيك عن الأعراض النفسية مثل الإضطرابات وفقدان الذاكرة وعدم الثقة بالنفس. ومن خلال مشاهداتي يمكن القول أن هذا العقار يدمّر الجسم والنفس في آن واحد.
كما اجريت دراسة في السويد انّ الذين يموتون بسبب تعاطي المتادون معرضون لاختطار وفاة أعلى نسبة مقارنة مع المخدرات الأخرى حيث يقدر عدد الوفيات من وراء استعمال المتادون ١٩٠ شخصا مقارنة بعدد الوفيات جراء تعاطي الهرويين والذي يقدر العدد ب١٥٠ نفرا خلال سنة واحدة .
في تلك الأيام سمعت أن أحد أقاربي باسم ح. ط مسجون في قسم ٥ متادون، فاخذت على نفسي أن أجده لذلك كنت أبحث عن فرصة لألتقي به وأتعرف عليه عن قرب. ما كنت أعرفه عن قرب ولم التق به قبل دخولي السجن. كان هذا الرجل يسكن في مدينة اخرى، وكذلك كانت فرصة لي لأشاهد قسم ٥ متادون من قريب.
ذات يوم كنت أتمشى في الممر الرئيسي، صدفة التقيت بأحد الموظفين يعمل حارساً على بوابة قسم ٥ متادون، وكانت بيني وبينه علاقة صداقة من قديم ويحترم هذا الصديق السجناء السياسيين. طلبت منه أن يسمح لي بمشاهدة القسم عن قرب، كما طلبت منه أن ألتقي بأحد أقاربي، وهو بدوره قد وافق، حيث تمكّنت من مشاهدة القسم بنفسي.
كان القسم الوحيد في سجن كارون المؤلف من طابقين و١٣غرفة مكتظة بالسجناء، ينام أكثرهم على الأرض على الجانبين (يسمى النوم الكتابي). ذلك أنّ المكان لا يتسع للنوم على الظهر بالنسبة لعدد السجناء. وصادفني الدهر وقد جربت هذا النوع من النوم بعد ما دخلت قسم ١١ في سجن عادل آباد في محافظة شيراز الإيرانية.
حسب دفتر إحصائيات السجن كان يقيم في قسم ٥، أكثر من ٨٣٠ سجيناً يتعاطون عقار المتادون، بالإضافة الى المئات من السجناء من باقي الأقسام بالتنسيق مع ادارة السجن. ويتجاوز اجمالي عدد المدمنين على هذا العقار القاتل ألف شخصاً، وتشكل هذه النسبة حوالي ٢٠٪ من نزلاء سجن كارون – السجن المركزي آنذاك في مدينة الأحواز العاصمة. كانت طريقة إعطاء وتوزيع العقار بين هؤلاء المئات من النزلاء مزرية ومشينة جداً، حيث كانت تخلط المادة مع الماء في دلو كبير، ومن ثم يسحب الموظّفون من هذا الدلو بالحقنة، و من ثمّ يفرغونها في أفواه السجناء المفتوحة أمام شباك صغير في باب القسم. مشهد لايزال أراه امام عيني، يصطف النزلاء في طابور يتألّف من مئات البشر (الزومبي)، كأنهم فراخ طيور ينتظرون الجرعة القاتلة. والأسوأ من ذلك، يبصق بعضهم هذه المادة في كيس بلاستيكي، ويتاجرون بها في السجن. وكانت هذه الحالة قد أدّت إلى انتشار بعض الأمراض المعدية بين السجناء.
لنأتِ الى الجانب الآخر من المشكلة، ماذا يقول ذوي هؤلاء المساكين وماذا تفعل الأم أو الطفلة أو زوجة ذلك السجين المسكين الذي أصبح زومبياً، وهل يبقى أمل لذوي هؤلاء الأحياء الأموات. كنت أرى الخوف في وجوه الأطفال والنساء بأم عيني عندما يَرَوْن الزومبي أمامهم. كانت هذه المادة الخطرة تُعطى بكميات كبيرة طوال سنوات لهؤلاء السجناء، وكأنها عملية إبادة جماعية لأكثر من ألف شخص بدم بارد تشبه إبادة سجناء معسكر أوشفيتز بيركينو على يد النازيين.
أقلقني الامر لذلك كرست كثيراً من الوقت لمطالعة مضرات العقار وطريقة استعماله. وبعد التحقيق والتقصّي، انتبهت إلى الأخطاء المميتة في نوعية استعمال هذا العقار القاتل. كاتبت مدير السجن الذي يدعى”رستمي”، شارحاً له مخاطر هذا العقار المتمثِّلة في تدمير روح وجسم الانسان. وأوضحت له ان هذه المادة تعطى لفترة أقصاها ثلاثة أشهر للمدمنين كي تساعدهم على تحمل آلام مرحلة الاقلاع عن المخدرات، وتخفيفها. وتبدأ بجرعة معينة، وتنتهي بماء مقطّر في الأيام الأخيرة، ولكن لا حياة لمن تنادي. وكما ذكرت في مذكراتي السابقة، إنّ المدعو رستمي كان مشغولاً بتجارة المخدرات في السجن، ولا تنفع معه مثل تلك الرسائل. حسب علمي مازالت سلطات الإحتلال في سجن شيبان – السجن المركزي في مدينة الأحواز العاصمة، توزع عقار المتادون بين السجناء في قسمي ٣ و٤.
بعد نقلي إلى سجن عادل آباد في مدينة شيراز وجدت المشروع ذاته ينفذ هناك، وتعرفت على موظف كان مدمناً في السابق، ولكنه ترك الإدمان عن طريقة برنامج إعادة التأهيل النفسي والاجتماعي للمدمنين يسمى (NA, Narcotics Anonymous)، وهي طريقة شيّقة اكتشفها شخص أمريكي وانتشرت في العالم. رغم انني لم أدخّن سيجارة ولم أشرب قطرة خمر طوال عمري الا انني شاركت في بعض جلساته، وتعرّفت على مميزات (NA). وعلى إثر ذلك، كاتبت رئيس سجن شيراز ال1ي يدعى” اسكندري ” وشرحت مخاطر المتادون وضرورة تخصيص قسما للعلاج، وتوفير الإمكانيات المخصصة للمتادون من أجل برنامج (NA) كبديل يصبح أكثر جدوىً وفاعليّة، ولا يحمل أية أخطار جانبية، لكنّه تجاهل الأمر كما فعل زميله في سجن كارون في مدينة الأحواز العاصمة وأكد ان هذه الامور تعتبر أوامرا تملى علينا من طهران فلا بد من تنفيذها وتخصيص قسما خاصا لها وتوفير عقار المتادون للسجناء.