نشرت إحدي الصفحات الفكاهية الفارسية علي الفيسبوك صورة عقب الاتفاق النووي بين إيران والدول الست الكبري, ظهر فيها وزير الخارجية الأمريكي جون كيري وهو يعانق بحماس منسقة الاتحاد الأوروبي للشؤون الخارجية كاترين أشتون.
وعقبت الصفحة علي الصورة بلغة هزلية قائلة: كيري يعانق أشتون بحرارة وكأن الولايات المتحدة هي التي كانت تحت حصار خانق فأخرجها هذا الاتفاق منه!. لا أريد أن أتكلم عن الفرحة التي كانت تعلو وجه كيري في تلك الصورة, وعما إذا كانت مثل هذه الفرحة توجد فعلا في قلوب الساسة الأمريكيين أم أنها علت وجه كيري فقط. وإنما أريد أن أقلب الصورة, وأتخيل وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف وهو يعانق أشتون بهذا الحماس; ولربما كان يعانقها لولا تلك القيود التي وضعها الإسلام علي سلوكه الدبلوماسي, حيث إن الرجل كان علي درجة عالية من الفرحة بحيث لم يصبر أكثر من دقيقة واحدة من وصول المفاوضات إلي بر الاتفاق وإذ به يغرد علي حسابه الشخصي في تويتر ليبشر الأمة الإيرانية بهذا النصر التاريخي الذي لم يتم لولا تضحيتهم… فماذا هو هذا النصر؟.
لننظر إلي مواد هذا الاتفاق- النصر التاريخي والتي نشرت علي مختلف المواقع بعد ذلك بقليل. الاتفاق يطالب إيران بعمل الكثير; تعطيل تخصيب اليورانيوم بدرجة20 بالمئة, وتعطيل عملية إنتاج أجهزة الطرد المركزي, وتعطيل ثلثي أجهزة الطرد الفاعلة في مفاعلي طهران ونطنز, وقبول إيران بخضوع كل المحطات والمفاعلات للتفتيش اليومي أو إمكان التفتيش اليومي. تراجعات جسام جعلت بعض الصحف الإيرانية تتكلم بنبرة سلبية عن الاتفاق لولا أن مرشد الثورة باركه. مقابل كل هذه التنازلات تحصل إيران علي مبلغ لا يكاد يصل إلي7 مليارات دولار. مع كل هذه المفارقات في المعطي والمحصول عليه, تبدو المفارقة أشد وطأة إذا دققنا في الفرحة الكبيرة التي عمت الشارع الإيراني من الناشطين حتي الساسة الرسميين إزاء هذا الاتفاق.
فعلي صعيد الشارع يكفي الرجوع إلي مواقع التواصل الاجتماعي حتي نري أن الفرحة عارمة; وأما علي صعيد الساسة, فالمرشد الأعلي للثورة الإسلامية علي خامنئي بارك الاتفاق وقدم شكره للجهود المخلصة التي بذلها فريق المفاوضين الإيرانيين. أما ظريف فلم يصبر علي كتمان فرحته فغرد لحظة إبرام الاتفاق تغريدة الفرح, ثم جاء دور الرئيس الإيراني حسن روحاني لكي يكمل الصرح, فعقد مؤتمرا صحفيا عاجلا في الثامنة صباحا ليلقي البشري بكل سرور. من ينظر إلي فرحة الشارع يمكنه أن يري في الفرحة أملا بانفراجة من الأزمة الاقتصادية التي أثقلت كاهل الشعب( بالطبع فإن هذه النبرة المتفائلة خفت بسرعة بعد الإعلان عن المحفزات القليلة التي لا تسمن ولا تغني من جوع).
كما يمكنه أن يري حيرة ودهشة لدي الفرحين أنفسهم فكأنهم يفرحون و يتساءلون في نفس الوقت: لماذا هم فرحون؟ ولكن حتي إذا فهمنا الفرحة لدي الناس فكيف نفهمها لدي الساسة؟. ما الذي يمكن أن يفسر هذه الهوة الواسعة بين شدة الفرحة من جهة, وبين شدة التنازلات الإيرانية من جهة أخري؟. هل السياسيون الإيرانيون كذلك يرون أن المليارات السبعة يمكن أن تسد جوعهم؟. النفط كان يدر علي الاقتصاد الإيراني قبل الحصار نحو مئة مليار في العام الواحد وما قدموه لهم يشكل7 بالمئة من هذا المبلغ, و هذا لا يقدم لنا دليلا مقنعا ليفرح السياسيون الإيرانيون هذه الفرحة.
ثم إن ما يذكره الاتفاق من فك الحصار مشروط بشروط, ويبقي علي مستوي المحاولات, ولا يتعداها مما يعني أننا واقفون عند نقطة الصفر في هذا المجال, إضافة إلي ذلك يمكن القول إن إيران دولة أيديولوجية. والدول الأيديولوجية لا تجعل التحليل الاقتصادي علي سلم أولوياتها وإنما تضع اعتبارات أخري أكثر طوباوية علي سلم الأولويات ليأتي الاقتصاد في مراتب تالية. إذن علينا البحث عن أسباب فرحة السياسيين الإيرانيين إزاء القرار ضمن اعتبارات أخري لا تفسرها المحفزات الاقتصادية الخالصة.
أولا وقبل كل شيء يحمل هذا الاتفاق اعترافا بدخول إيران ضمن نادي الدول التي تمتلك التقنية النووية; حتي إذا أصر كيري علي غير ذلك, فإن مقدمة الاتفاق تصرح بأن هذا الاتفاق يجب أن يؤدي إلي مشروع نووي إيراني من ضمن تفاصيله حق إيران في تخصيب اليورانيوم. هذا ما كان يرفضه المجتمع الدولي, وعلي رأسه الولايات المتحدة قبل ذلك. فلنتذكر أن الولايات المتحدة رفضت قبول ما سمي ببيان طهران عام2010 والذي اقترحته كل من البرازيل وتركيا علي الرغم من أن شروط الاتفاق كانت حينها تشير إلي ضرورة إيقاف طهران عملية التخصيب بشكل كامل, كما أن علينا أن نتذكر أن الرفض الأمريكي تم في زمن الديمقراطيين, وليس في زمن الجمهوريين بل وفي زمن أوباما نفسه لتقدم إيران بعدها علي توسيع نطاق التخصيب حتي العشرين بالمئة. أما هذه المرة فإن الاتفاق نص مرتين علي حق إيران في تخصيب اليورانيوم كما لم يطلب منها وقف تخصيب اليورانيوم كاملا, وإنما ذكر أن عليها خفض العملية سعة وعمقا.
المحصلة هي أن إيران تقدمت خطوة إلي الأمام في هذه اللعبة. النقطة الثانية هي أن الاتفاق يشير إلي أن نقطة الصفر في المفاوضات القادمة هي هذه النقطة بالذات وليس تصفير عملية تخصيب اليورانيوم, وبالتالي فإن المفاوضات لاتأتي لكي تشكك في هذا الثابت, و إنما تأتي لتضيف إلي هذه النقطة شيئا, وحتي إذا قبلنا أنها لن تضيف شيئا يذكر فإنها علي الأقل لا تنسف ما سبق, وفي ذلك مكسب في حد ذاته للجانب الإيراني حيث قدم نقطة بداية السباق خطوات إلي الأمام. أما النقطة الثالثة وهي النقطة التي أراها الأهم من بين مكاسب الإيرانيين هي أن الإيرانيين أظهروا للعالم أن التوصل إلي اتفاق مع النظام الإيراني شيء ممكن.
فمن بعد كل هذه السنوات من المفاوضات العسيرة والعاقرة راح العالم يتصور أن الوصول إلي بر الاتفاق مع إيران أمر مستحيل, وأن هذا البحر لا بر له, فاستفحل لدي المراقبين تصور أن إيران لا تريد المفاوضات من أجل التوصل إلي اتفاق; بل من أجل المفاوضات; لكسب مزيد من الوقت; مما يمكن أن نسميه بالطريقة الإيرانية في المفاوضات. هذا التصور راح يؤثر سلبا علي سمعة المفاوضين الإيرانيين و ينأي بالكثيرين من دخول لعبة المحادثات أيا كان موضوعها مع إيران. أما اليوم و بعد التوصل إلي هذا الاتفاق- وإن كان هشا- فإن هذه الصورة عن إيران تبددت; خاصة إذا أخذنا بعين الاعتبار أن الطرف الرئيس في هذا الاتفاق كان الولايات المتحدة, العدو الرئيس للثورة والشيطان الأكبر في الأدبيات السياسية الإيرانية. حينها يبدو أن التوصل إلي اتفاق مع إيران أمر ممكن.
يبدو أن الإيرانيين أجادوا الرقصة وأتقنوها… يتقدمون خطوتين إلي الأمام, ثم يتراجعون خطوة واحدة, فتكون النتيجة خطوة واحدة إلي الأمام.