تملك إيران أو تمول أكثر من مئة قناة وإذاعة ووسيلة إعلام موجهة في معظمها للعرب، وتعج بالخطاب الطائفي التحريضي، وخطاب الكراهية الذي ينتج عنه عمليات إرهابية قائمة على أساس من نظرية الثأر التاريخي. ويمكن تقسيم وسائل الإعلام التي تتبناها إيران إلى قسمين رئيسيين: قسم ديني طائفي، وقسم إخباري سياسي. ومن القسم الأول وسائل إعلام – وعلى الأخص فضائيات – مقرها في إيران تحرض على الكراهية، بل تؤصل لها على أساس ديني، على طريقة «ثأر الله»، الذي يعني في الخطاب الطائفي الإيراني الثأر ممن قتلوا الإمام الحسين رضي الله عنه. ولأن التاريخ يحدثنا أن قتلة الإمام الحسين قد قتلوا جميعاً وانتهى أمرهم، فإن الخطاب الطائفي الإيراني لا يعدم وسيلة في ابتكار أعداء جدد للإمام الحسين يسميهم «الأمويين الجدد»، أو «أحفاد يزيد»، على حد تعبير رئيس وزراءالعراق نوري المالكي الذي انجرف لهذه الموجة الشعوبية عندما سمى خيام المعتصمين في الأنبار «خيام يزيد».
لا داعي للإشارة ـ بالطبع ـ إلى أن هذا الخطاب المبني على الكراهية، الذي تغذيه وسائل الإعلام الإيرانية ليس مقصوداً به نصرة الحسين، ولكن لشق عصا العرب طائفياً لكي تنفذ إيران من خلال هذه الشقوق الكثيرة أصلاً إلى مخططاتها في التحكم بمقدرات العرب.
وقد بلغت هذه القنوات حداً فاضحاً في الترويج للكراهية والثأر التاريخي، وإظهار «أهل البيت» الذين يحظون باحترام المسلمين كافة بصورة أسطورية مضحكة لا تمت للواقع بصلة، إلى درجة أن طلب زعيم مليشيات حزب الله حسن نصر الله من خامنئي وقف بعضها، لأن تكتيك نصر الله الآن يقتضي أن تقف هذه القنوات بعد أن انكشف وجهها الطائفي القبيح بشكل لا يخدم أهداف الحزب الإلهي الإيراني فيسوريا. وبعيداً عن قنوات «ثأر الله» الدينية الطائفية، عمدت إيران إلى تقوية دعايتها السياسية إعلامياً في البلدان العربية، مستعينة بجيش من «الوكلاء الإعلاميين» لها في أوساطنا، في وقت لا تكاد الجهود العربية في مخاطبة المتلقي الفارسي تذكر.
وتركز الرسالة الإعلامية الإيرانية على إظهار إيران في صورة الدولة القوية، التي تملك برنامجاً نووياً، والتي تغزو الفضاء وتجوب البحار، وتتحدى قوى الاستكبار وتتصدى لمهمة تحريرالقدس الشريف.
وكلنا يذكر حكاية «القرد الإيراني» الذي صعد إلى الفضاء في قصة انكشف أنها مجرد فبركة «فوتوشوب»، وأقرت إيران في ما بعد بأن صورة القرد الذي ظهر على أنه مسافر إلى الفضاء، غير صورة القرد الذي قدمه الإعلام الإيراني على أنه القرد ذاته الذي صعد، ولكن بعد أن عاد من رحلته الفضائية في حكاية مضحكة. ونذكر كذلك صورة الطائرة العملاقة التي ادعى سلاح الجو الإيراني أنه صممها قبل أن يقول خبراء التصوير إن الطائرة التي عرضتها وسائل إعلام إيرانية كانت من تصميم الكومبيوتر ليس أكثر. والعجيب أن الإيرانيين لا يهتمون لانكشاف أكاذيبهم الإعلامية، بل ما إن تنكشف كذبة حتى يعمدوا إلى أخرى، وعينهم في ذلك كله على المتلقي العربي الذي يبدو أنهم يخاطبونه، وفقاً لمعرفة بكيف يفكر ويشعر، بفعل جيش من وكلائهم العرب الذين يقدمون لهم دراسات عن الشخصية العربية تساعد في توجيه الرسالة الإعلامية.
لإيران اهتمام واضح بالمنطقة العربية، وكل سياساتها قائمة على أساس التوسع الإقليمي، وهي في حقيقة الأمر غير معنية بالعداوة مع إسرائيل، إلا في إطار التنافس بين الدولتين على النفوذ في البلاد العربية التي أصبحت بفعل عقود من الفشل للنظام الرسمي العربي ساحة لكل اللاعبين من غير أبنائها. سياسات إيران الإعلامية قائمة ـ إذن- على حقيقة أن المنطقة العربية هي محور اهتمام صانع السياسة الإيرانية، ولأن ذلك ثابت من ثوابت السياسة الخارجية الإيرانية، فإن المراقب لا يستغرب وجود هذه العدد الضخم من وسائل الإعلام، والقنوات الإيرانية المحتوى والعربية اللسان. وتماشياً مع هذه السياسة، وعدا عن جيش من الإعلاميين العرب الذين يعملون لصالح إيران بشكل معلن، في وسائل إعلام تملكها إيران أو تمولها، دست إيران بشكل ذكي عدداً من «الخلايا الإعلامية»، إن جاز التعبير، في عدد من وسائل الإعلام العربية التي لا تملكها ولا تمولها، بل التي تظهر على أنها تنتهج خطاً معارضاً للسياسات الإيرانية في المنطقة. واستطاع هؤلاء الإعلاميون في فترة من الفترات أن يخفوا ولاءهم للاعب الإيراني سنوات طويلة قبل أن تكشفهم الثورة السورية، حيث لم يعد بالإمكان إسدال ستار «التقية الإعلامية» على وجوههم. وقد شهدنا على وقع المعارك السورية على الأرض خروج رجال إيران من وسائل إعلام عربية كبرى، وبعضهم أسست له إيران قنوات تلفزيونية، في حين لجأ البعض إلى لندن وكشف عن وجهه الإيراني، بعد أن اكتسب من خلال عمله في القنوات العربية خبرة كافية، واستفاد مالياً، ثم تحدث أخيراً بصفته خبيراً عربياً في الشؤون الإيرانية، وأسماء هؤلاء معروفة ولا تحتاج إلى ذكر في معرض هذا الحديث.
وقد بدأ كثير من هؤلاء الإعلاميين عملهم منطهران، وكانت السياسة الإيرانية تقتضي ـ آنذاك – أن يبدي هؤلاء شيئاً من المعارضة للسياسات الإيرانية، حتى يخفوا حقيقة انتمائهم الفكري والسياسي للنظام فيطهران، على الرغم من أن بعضهم كان موظفاً في الحلقات الإيرانية الرفيعة. قبل أن تتم فبركة بعض التهم لهم، في مسرحية هزيلة خرجوا على إثرها من إيران بصفة معارضين.
والمثير للسخرية أن هؤلاء الذين كانوا – وما زالوا – يقدمون في وسائل الإعلام العربية بصفات المحللين السياسيين في الشأن الإيراني، يتخذون خطاباً مزدوجاً على حسب وسيلة الإعلام التي يتحدثون إليها، ونوعية اللغة التي يتحدثون بها: عربية أو فارسية.
يظهر أحدهم مثلاً معارضته لسياسات إيران في المنطقة، ويظهر تعاطفاً مع القضايا العربية ضد سياسات إيران على قنوات عربية، ثم يقول غير ذلك تماماً في وسائل إعلام إيرانية ناطقة بالفارسية، حيث يتهكم على العرب ويتحدث عن «الخليج الفارسي»، والبحرين «المغتصبة»، و «مشيخات» الخليج التي يتودد إليها بالعربية ويشنع عليها بالفارسية. أذكر أنني مرة كتبت عن هشاشة الصورة الإيرانية من الداخل، على خلاف ما تحاول عمليات الخداع البصري الإيراني تقديمه لنا في الخارج، فانبرى كاتب إيراني يكتب في صحيفة عربية كبيرة، ويزعم أنه من معارضي النظام، انبرى للكتابة عن هشاشة الوضع اليمني في الداخل، في رد غير مباشر على مقالي، يظهر أن دافعه للكتابة عناليمن كان لأنه لم يحتمل أن يكتب أحد عن وضع إيران الهش، رغم ادعائه معارضة نظام طهران.
هذا الكاتب الذي لا يكف عن إظهار إعجابه بالثقافة العربية في الشعر والأدب، عندما يكتب في صحف عربية، ظهر مؤخراً في برنامج على الـ»بي بي سي» الفارسية، حيث شنع على العرب بشكل يوحي بالازدراء، رداً على سؤال عن مطالب العرب الأحوازيين في إيران، حيث قال «لا يوجد عرب في إيران، هناك ناطقون بالعربية فيها». يظهر ذلك اعتماد راسم السياسة الإعلامية في إيران على حقيقة جهل معظم العرب باللغة الفارسية، وهذا سر وجود خطابين، أو خطاب مزدوج لوكلاء إيران الإعلاميين، أحدهما باللغة العربية والآخر بالفارسية.
وكلنا يعرف كيف حرف المترجم الإيراني خطاب الرئيس المصري السابق محمد مرسي في قمة عدم الانحياز التي انعقدت في طهران في أغسطس/اب عام 2012، حيث قال «إن تضامننا مع نضال أبناء سوريا الحبيبة ضد نظام قمعي فقد شرعيته هو واجب أخلاقي..علينا جميعا ان نعلن دعمنا الكامل غير المنقوص لكفاح طلاب الحرية والعدالة في سوريا»، حيث حرف المترجم الفارسي الخطاب ووضع كلمة «البحرين» مكان كلمة «سوريا»، بشكل فج وبطريقة ساذجة أثناء الترجمة الفورية لكلمة مرسي التي وردت على التلفزيون الرسمي الإيراني.
ولما كانت إيران تملك جيشاً ممن يجيدون اللغتين: العربية والفارسية، في حين لا تملك وسائل الإعلام العربية مثل تلك الإمكانات، فإن العرب في ما يخص الشأن الإيراني يستعينون بإيرانيين يجيدون اللغة العربية، أو بإعلاميين من «عرب إيران» في المنطقة، وفي الحالين يعمل هؤلاء لصالح طهران.
هذا الوضع ينبغي أن يتغير لصالح التوسع في إعداد – أو البحث عن – إعلاميين يجيدون الفارسية، وينطلقون من منطلقات عربية لا إيرانية، والحصول على هذه الكفاءات ميسر، فهناك الكثير ممن يجيدون اللغتين: العربية والفارسية، مع مناصرة حقيقية للقضايا العربية.
واليوم وبعد تحول الإعلام من مراقب وناقل للحدث إلى صانع للأحداث، فإنه يتحتم على العرب الاهتمام بتوجيه خطاب إعلامي عربي لإيران قائم على الفهم العميق للشخصية الإيرانية، وبشكل يخدم المصالح القومية العربية ويعري الصورة الإيرانية المكسوة بغير قليل من الأسطورة الدينية والتعالي القومي والتقية الإعلامية.