خاص بموقع بادماز: كنت شاهد عيان على يوم الاربعاء الاسود في مدينة المحمرة، حيث استباحت القوات الايرانية المدججة بالسلاح الثقيل والخفيف المدينة من اطرافها الاربعة واطلقت النار على كل متحرك فيها وذلك في التاسع والعشرين من شهر آيار/مايس من عام 1979 للميلاد، وقد حفرت الاحداث بذكرياتها الاليمة اثراً في نفسي لا يمكن ان يمحى، لم يسعفني الحظ حينها ان اسجل ما جرى امامي آنذاك، فقد كنت اعيش دهشة تكّون التاريخ المضمخ بالدم وانا ابن الثامنة عشرة عاما، خاصة وان عمي الامام الشيخ محمد طاهر الخاقاني رحمه الله، كان الرمز الذي يطالب بحقوق العرب ووالدي الشيخ عيسى الخاقاني حفظه الله، كان المفاوض للسلطة، فلم امل من البحث ولم اكل من التحقيق في هذه الحادثة، حتى اجتمعت لدي بعض الوثائق التي تؤرخ لهذه الحادثة الاليمة واوجزها في ذكراها بما يلي.
اتصل (مكتب الامام الخميني) بناء على اوامر من السيد الخميني نفسه، اتصل بوالدي الشيخ عيسى الخاقاني الذي كان يعيش في دولة قطر يطلب منه التوجه إلى مدينة قم الايرانية على وجه السرعة لتدارك تداعيات الموقف المتأزم في مدينة المحمرة، وقد اخذني الوالد الشيخ معه، حيث استقبلنا في مطار طهران من قبل رئاسة الوزراء الايرانية ووفرت لنا مركبة اقلتنا الى مدينة قم، وصلناها مساءً واتخذنا من فندق ارم مقرا لنا، في الصباح كان الفندق عربياً بعقاله وكوفيته حيث ان عمي المرحوم الامام الخاقاني كان قد وصل الى قم على راس وفد عربي كبير لعرض مطالب الشعب العربي في الاهواز على السيد الخميني.
السيد الخميني وعد الوفد بتنفيذ كل المطالب المعروضة وقال انها مطالب حقه يستحقها الشعب، وخاطب الامام الخاقاني امام الحضور باستاذي الشيخ الخاقاني، لكن في اجتماعه مع والدي الشيخ عيسى الخاقاني لم يكن السيد الخميني مرتاحا لما يجري في المحمرة، فكلف والدي بالانابة عنه وعن الحوزة العلمية في مدينة قم لمتابعة هذا الملف، الوالد بدوره طلب من السيد الخميني اصدار امر رسمي بهذا الخصوص يدعم من مهمته، وقد صدر بيان عن (مكتب الامام الخميني) يؤكد على ان الشيخ عيسى الخاقاني مكلف من قبل الخميني والحوزة العلمية في قم لمتابعة الازمة في المحمرة.(وقد عثرت على هذا التكليف في مضابط اجتماعات السيد مهدي بازركان رئيس الوزراء والتي نشرها مسعود بهنود في كتاب 375 روز بازركان).
حينما عاد الوفد العربي بمعية الامام الخاقاني رحمة الله عليه الى المحمرة اتجه والدي الشيخ عيسى الى عقد اجتماعات مع مراجع قم ومن ثم الى غادر الى طهران والتقى هناك برئيس الوزراء بازركان وبوزراء الداخلية والخارجية والدفاع ورئيس المحاكم الثورية وآية الله طالقاني الذي كان احد رموز النظام آنذاك، لأجل إيجاد حل لهذه المشكلة بعد ان أريقت الدماء من الطرفين، على موقع وقائع الثورة باللغة الفارسية يذكر عن هذه المهمة ما يلي: (وقايع ابتدای انقلاب ودفاع مقدس، در چنين روزى مجله الکترونيکي روزانه:: شماره 1092:: چهارشنبه 3 تير 1388، گفتوگوي شيخ عيسى خاقانى با مهندس بازرگان در باره مسائل خوزستان، آزادى زندانيان حوادث خرمشهر، شرايط رئيس جمهورى آينده وقطع صدور نفت به فيليپين…)، وترجمة ذلك: (بانه وفي مثل هذا اليوم التقى الشيخ عيسى الخاقاني برئيس الوزراء مهدي بازركان وتحدث معه عن قضايا خوزستان وإطلاق سراح سجناء أحداث خرمشهر (المحمرة) والشروط التي يجب أن تتوافر في رئيس الجمهورية المقبل لإيران، بالإضافة عن قطع تصدير البترول للفلبين…)، وجميع هذه الاجتماعات مؤرشفة في الصحف الايرانية آنذاك وقد احتفظت بصور ضوئية لها للتاريخ.
وصل الشيخ عيسى الخاقاني بعد محادثاته في طهران وقم بواسطة القطار الى المحمرة، وفي محطة القطار تجمع عشرات الألف يهتفون للشيخ عيسى الخاقاني بشعار واحد (الخاقاني عزنا وهيبتنا) وقد رفعوا سيارته عن الأرض، مما أعطى انطباعاً أولياً بأن الحل ممكن في مثل هذا القبول الشعبي، كانت مشكلة المحمرة تتعلق ببعض العرب الذين أسسوا ضمن حقهم الدستوري منظمة ثقافية عربية ومنظمة سياسية عربية، أحدهما تقع في بيت للشيخ خزعل امير المحمرة قبل الإحتلال الإيراني لها عام 1925، رأى الفرس الذين اسسوا بدورهم المنظمة الثقافية الفارسية في المقابل، بان المنظمة السياسية العربية تمثل استفزازا واضحا لمشاعرهم وأنها تجمع القوميين العرب، وانها تحتل احدى المباني الحكومية!!، وعندما سيرت المنظمة العربية مظاهرة في وسط المدينة اطلق الفرس النار على المظاهرة من مبنى المنظمة الثقافية الفارسية، مما حدى بالمتظاهرين في الهجوم على المبنى وحرقه، فتحصن الفرس في المسجد الجامع مطالبين بإغلاق المنظمة السياسية العربية، وقد حدثت مناوشات بالسلاح بين الطرفين أدت إلى مقتل عربي وشخصين من الفرس، خاصة وان مخازن أسلحة الجيش الإيراني كلها قد أفرغت على بكرة أبيها وأصبحت بيد الجماهير، ومن لا يحصل على سلاح في المحمرة يستطيع أن يحصل عليه بثمن بخس من الحدود العراقية حيث نشطت عملية تهريب الاسلحة، مما زاد الطين بلة.
حاول الشيخ عيسى الخاقاني ان يضع حلا للمشكلة مع المسؤولين في قم وطهران، إلا أن فرصة الحل تضآلت أمامه بسبب العراقيل التي كان يضعها الجنرال أحمد مدني لتخريب كل جهد يبذله الشيخ الخاقاني أو ينقض كل اتفاق يبرمه معه، حتى اضطر الشيخ عيسى الخاقاني أن يوقعه على معاهدة رسمية نشرها في كل الصحف صباح اليوم التالي وبثها التلفزيون الإيراني مساء نفس اليوم، وأسقط في يد الجنرال أحمد مدني بعد المعاهدة والحركة المكوكية التي قام بها الشيخ عيسى الخاقاني بين مراجع الدين ورئيس الوزراء والوزراء المختصين.
الشيخ عيسى الخاقاني بدأ أول خطواته باستدعاء شيوخ العشائر في المحمرة وعبادان والاهواز والطلب منهم المساهمة في حل هذه الأزمة واضعاً بنظر الاعتبار تسلم البيت الذي بيد المنظمة السياسية العربية إلى الحكومة والبحث عن مبنى آخر لهذه المنظمة لسحب فتيل الفتنة، وبعد مفاوضات مضنية وافق الشباب العربي في المنظمة على تسليم المبنى إلى الدولة وذلك يوم الخميس، حيث يزروهم الامام الشيخ محمد طاهر الخاقاني إلى مبنى المنظمة ويطلب منهم تسليم المبنى، فيمتثلون لأمره ويسلم المفتاح إلى المحافظ، لتنتهي بذلك اول المشاكل، اتفق الشيخ عيسى الخاقاني مع احمد مدني محافظ الاهواز(خوزستان) على جمع الاسلحة المنتشرة بين الناس، طالبا منه بتأثيره على الفرس باصدار اوامره اليهم لتسليم الاسلحة، وقد وعده ولم ينفذ.
استدعى الشيخ عيسى الخاقاني يوم الثلاثاء مساء الجنرال مدني إلى مبنى قائم مقامية المحمرة وبحضور علوي قائم المقام وحقاني رئيس البلدية وحجج الاسلام دبياجي والياسي، ابلغه بالنجاحات التي توصل إليها، وأخبره بصفته المحافظ واحد المشاركين في الازمة بأن الخميس سيشهد اليوم الأخير لهذه المشاكل إن شاء الله، وانتهت الجلسة في الساعة الثانية والنصف قبل الفجر.
خرج الجنرال مدني في الساعة الثانية صباحاً يوم الأربعاء من الاجتماع، وفي الرابعة صباحاً أي بعد أقل من ساعتين، ومع اذان الفجر كانت كل مدينة المحمرة كلها تحت مرمى نيران المدفعية من البحرية الإيرانية وإطلاق الرصاص الحي على كل من يتحرك فيها، وهجوم مكثف من قوات الجيش والحرس على المنظمات السياسية والثقافية العربية وقتل من فيها، مجزرة المحمرة هذه استمرت لثلاثة ايام انقطعت فيها المدينة عن العالم الخارجي وقد خلفت المجزرة أربع مئة قتيل أغلبهم لا يدرون لماذا قتلوا؟ وامتلأت المستشفيات بالجرحى، وقد عثر على أكثر من سبعين جثة طافية في شط العرب!!، كان يؤلمني جداً تذكر جثمان السيدة العجوز التي ادت صلاة الفجر وصعدت الى سطح البيت حيث التنور لتخبز لأبناءها فاصطادها قناص فارسي اهوج، وكذلك الطفل عباس بن صبري الذي يخرج قبل طلوع الشمس لغسل السيارات لمعاونة والده المعوق، حيث اخترقت جبهته رصاصة طائشة، جعلت والده المعوق طائش الفكر يجوب الشوارع بحثاً عن عباس ثم يقف مطرقاً ليخبر المارة ان عباس قد مات!.