كان للمثقفين الأتراك في الثورة الدستورية دورٌمهم وقيادي، أثّر إيجابا ًعلى الحراك السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي، وكذلك على الاتجاهات الدينية والطائفية والقومية في الممالك المحروسة. ومن هذا المنطلق كانت آزربايجان، بقيادة ستارخان، وتماشيا ً مع التطورات والتغيرات التي حصلت في العالم، كانت ترغب في تقرير مصيرها وذلك من خلال تغير النظام السياسي من النظام الملكي المطلق إلى نظام ملكي دستوري وإنشاء جمعية وطنية ودستورٍ للبلاد.
وفي ضوء ذلك، كانت آزربايجان الجنوبية تسعى من خلال الثورة الدستورية إلى تحقيق هدفين؛ أولاً: أن يكون شكل وطبيعة النظام ملكياً دستورياً؛ثانياً: أن تدرج الجمعيات والمجالس المحلية في الدستور.
وفي الواقع، كانت المجالس المحلية تسعى لمنع تمركز القدرة في المركز وتهيئ لإمكانية مشاركة فئات المجتمعات وممثليها في الأقاليم في الدستور، ولاسيما حل المشاكل وإيجاد أرضية قد تتطور من خلالها المناطق القومية، مما ينعكس إيجاباً على كافة المناطق في الممالك المحروسة. وقد كانت جمعية تبريز “برلمان محلي” استمرارا ًللحكم الذاتي في الأقاليم القومية على مر التاريخ في منطقة شرق الأوسط، حيث كان النظام السائد في تلك الحقبة من تاريخ هذه المنطقة شبيهاً بمناطق النفوذ تحكمها حكومات محلية متعايشة فيما بينها، ولم تكن جغرافية إيران السياسية الحالية استثناءا ًمن هذه القاعدة التي تتميز فيها هذه المنطقة من العالم.
تعتقد النخبة المثقفة في إيران أن الثورة الدستورية، على الرغم من أثرها العميق في المنظومة الفكرية لسكان جغرافية إيران الحالية، لم تتمكن من تحقيق أهدافها. لذلك يرى هولاء المثقفون أن الثورة الدستورية فشلت ولم تصل للهدف الذي قامت من أجله. والأسباب التي أدتإلى فشل الثورة هي أسباب متعددة ومتنوعة ومختلفة في آنٍ واحد، لكن من الممكن أن نبحث هذه الأسباب من خلال جانبين هامين وهما؛ أولاً: تنافس القوى الأجنبية على السيطرة وبسط النفوذ. ثانياً: المنافسة بين التيارات التي تطالب بالتغيير من جهة والتيارات التقليدية من جهة أخرى.
إن الآزربايجانيين الجنوبيين، الذين كانوا من رواد الثورة الدستورية،لم يتمكنوا من تحقيق أهدافهم، وإنما ساء الوضع لديهم، وقد رأت كافة الحكومات التي جاءت بعد الثورة الدستورية أن الخطر الحقيقي الذي يهدد السلطة السياسية لهذه الحكومات هي آزربايجان الجنوبية. وعلى ضوء هذه الرؤية، اتخذت هذه الحكومات سياسات معقدة على كافة الأصعدة الثقافية والاقتصادية والإدارية والسياسية للحد من قدرة وتأثير آزربايجان الجنوبية في نظام الحكم، ولتحجيم الدور الذي لعبته في التغيير والتحول في تلك الحقبة من التاريخ السياسي لجغرافية إيران الحالية. والطريف في الأمر أن هذه السياسات التي مارستها السلطات المتعاقبة على سدة الحكم تجاه آزربايجان كانت تجد الدعم والتشجيع من قبل المثقفين الفرس، وذلك على الرغم من أن نتيجة هذه السياسات كانت كارثةحقيقية للشعب التركي في آزربايجان الجنوبية، وأصبحت في ما بعد، هذه السياسات العدوانية، سببا ًلفك الارتباط والبحث عن مستقبل خارج التركيبة الإيرانية.
يرى يرواند أبراهاميان مؤلف كتاب إيران بين الثورتين: “إن الآزربايجانيين في بعض الحالات سعوا للحفاظ على النظام الدستوري، وفي نفس الوقت هددوا بالخروج عليه ومواجهة نظام أحمد الشاه القاجار، وهذا الأمر يدل على معرفتهم الحقيقية بهويتهم التي تختلف كليا ًعن غيرهم في إيران، وكذلك يدل على إدراكهم القوي للوضع السياسي السائد في تلك المرحلة”.
ويتضح من الحقبة التاريخية للثورة الدستورية أن رغبة الشعب الآزربايجاني يميل إلى القومية التركية وإلى تشكيل حكومة مستقلة. لكن في تلك الحقبة من التاريخ كانت إيران تحت السيطرة والمنافسة الشديدة من قبل بريطانيا والامبراطورية الروسية، على الرغم من أنه لا يبدو أن إيران مستعمرة بقدر ما هي مناطق نفوذ مقسمة بين روسية وبريطانيا. وبالتالي فإنه في مثل هذه الظروف لم يكن الثوار في مواجهة مع الحكومة المركزية والملك “أحمد الشاه القاجار” بقدر ما كانوا في مواجهة حقيقية مع الروس والبريطانيين وعملائهم في الحكومة.
وفي النهاية، فإن الثورة الدستورية لم تحقق أهدافها، ولكنّ روح الثورة بقيت حية في آزربايجان إلى أن ظهر الشيخ محمد خياباني الذي أسس دولة قومية عرفت بـ”دولة آزادستان” والتي كانت في الواقع امتداداً للروح الثورية لدى شعب آزربايجان الجنوبية وإرادتهم لنيل الحرية والاستقلال من الهيمنة الفارسية.
تشكيل دولة آزادستان 1920:
كانت الأعوام التي أعقبت الثورة الدستورية زمن صراع بين القوى السياسية والمراكز الدينية التي حاولت أن تزيل المكتسبات الدستورية والقوى التقدمية التي سعت لتنفيذ البنود الدستورية المتفق عليها. ومن جهة ثانية، كانت فترة الحرب العالمية الأولى التي حاولت الامبراطوريات والقوى العالمية الكبرى من خلالها أن تؤثر على سير التطورات العالمية.
في هذه الفترة تشكل مجلس قومي في تبريز قام بنشاطات واسعة شملت إصدار العديد من الصحف والمجلات باللغتين الفارسية والتركية. وكذلك من الإجراءات الأخرى التي قام بها المجلس القومي لآزربايجان الجنوبية إنشاء المستشفيات والبلديات والمدارس الحديثة والمحاكم والشرطة ولاسيما اللجنة الوطنية للبت في الخلافات المالية للمواطنين، فكانت هذه النشاطات نتيجة للعمل المشترك بين المجلس القومي والحزب الديمقراطي بقيادة شيخ محمد خياباني.
لكنهذا العمل الوطني لأبناء آزربايجان الجنوبية لم يستمر بسبب الظروف التي فرضتها الاتفاقية التي أبرمتها الحكومة الإيرانية عام 1919 مع بريطانيا، حيث أعطت هذه الاتفاقية الكثير من الامتيازات السياسية والتجارية والخدماتية لبريطانيا بدون رغبة حقيقية من أحمد شاه القاجار بهذه الاتفاقية، وذلك من خلال الضغط الذي مارسه الوزير الموقع على هذه الاتفاقية.
حولت هذه الاتفاقية إيران إلى مستعمرة بريطانية وسلبت الكثير من الحقوق الاقتصادية والسياسية من الحكومات المحلية، مما دفع بالقوى السياسية إلى أن ترفض هذا الاتفاق وتحتج عليه، وتجلى هذا الرفض من خلال مطالبة الحزب الديمقراطي الآزربايجاني بقيادة شيخ محمد خياباني بإقالة الوزير الذي وقع مع البريطانيين هذه الاتفاقية، والعمل بــبنود الثورة الدستورية والتي كان روادها أبناء آزربايجان الجنوبية.
هذا الوضع السياسي المعقد شكل أزمة حقيقية بين الحكومات المحلية من جهة وحكومة المركز من جهة ثانية، ما مهد أن يقوم الشيخ محمد خياباني والحزب الديمقراطي بــانقلاب وبتشكيل دولة مستقلة في تبريز عاصمة آزربايجان الجنوبية سميت بـ “آزادستان”. لكن بعد ستة أشهر من ولادة هذه الدولة التركية قام الجيش القاجاري بحملة عسكرية سحق من خلالها الثوار وقائدهم محمد خياباني وأزال هذه الدولة من الوجود كلياً.
وعلى إثر هذه الأزمة أعلنت دولة آزادستان أنها لا تقصد بإعلانها عن تشكيل حكومة مستقلة الاستقلالعن إيران، وإنما تسعى لتحقيق الحقوق واعتماد النظام الديمقراطي لكافة الممالك المحروسة في تلك الآونة، ولاسيما إزالة المركزية الإدارية والسياسية. وحدد محمد خياباني مطالبه بأن تكون لآزربايجان الجنوبية حصة عادلة تمثلها في المجلس، وكذلك ميزانية عادلة من الحكومة المركزية تخصص للإقليم. وعلى الرغم من إسقاط “دولة آزادستان” فقد تحققت في واقع الأمر بعض الإنجازات الإدارية والتعليمية والإنشائية التي قام بها محمد خياباني، فعلى سبيل المثال، تم تأسيس المدارس باللغة التركية الآزربايجانية وتوظيف مدرسين من آزربايجان الشمالية وتركية لهذا الغرض. فكانت حكومة آزادستان، نتيجة للمجالس المحلية ومجالس الدولة، تعتبر من أكثر الحكومات شعبية في التاريخ السياسي للمنطقة (إيران) في تلك الحقبة.
انقلاب 1921 وظهور رضا شاه:
من المكتسبات والإنجازات التي أحدثتها الثورة الدستورية ودولة آزادستان في الأقاليم أنها أشعرت الحكومة البريطانية وعملاءها من الفرس في الحكومة المركزية أن آزربايجان الجنوبية هي العائق الأكبر والأساسي في طريق تحقيق منافعهم. ومن ناحية أخرى كان أحمد شاه القاجار غير راغب في التعاون مع البريطانيين، ما دفع بريطانيا إلى أن تقوم بـانقلاب أسقطت من خلاله رضا شاه القاجار عام 1921 وأتتبـ “رضا شاه البهلوي” الذي كان في ذلك الوقت ضابطاً في الجيش.وقد تم إعداد هذا الانقلاب من خلال خطة مخابراتية محكمة قام بها “أردشير جي ریپورتر” رئيس جهاز المخابرات السرية البريطانية في بلاد الفرس، ليكون رضا شاه عراب الفرس في بناء الدولة الحديثة التي سميت عام 1936 بـ إيران.
رضا شاه البهلوي وسياسة التفريس:
تميزت حكومة رضا شاه بالاستبداد السياسي ومركزية السلطات، فاتسمت هذه السياسة بالقتل وغزو الأقاليم المستقلة وشبه المستقلة واحتلالها. ومن هذه الأقاليم التي احتلها عراب الفرس هي الأحواز وبلوشستان والبختيارية وغيرها من الأقاليم، وأسس في جغرافية إيران الحالية دولة حديثة واعتمد سياسة التخويف والقتل والتعذيب وتصفية الخصوم التي مازالت مستمرة.
في الواقع بنيت الحكومة البهلوية على الفكر القومي العنصري الشوفيني الذي يعتبر أن إيران بلاد العرق الآري والمتحدثين باللغة الفارسية. ومن خلال هذا التفكير الأعوج لم يستطع “رضا شاه البهلوي” أن يتقبل الوجود العربي والتركي، حيث أن وجود العرق العربي والتركي ذو التاريخ العريق ينافي ما جاء به من زور وبهتان، لذلك كان يرى أن الشعوب غير الفارسية هم أعداء “أمة رضا شاه إذ صح التعبير” الذي سخر كل شيء لتكوين هذه الأمة وهي أكذوبة ليس إلا. وللقضاء على الأجيال التركية والعربية وغيرها من القوميات الأخرى اعتمد سياسات معقدة وعلى كافة المستويات الاقتصادية والسياسية والثقافية، ودعم هذه السياسة العدوانية بالسلاح والعتاد، وخاصة من خلال ثروات الأحواز البترولية، ولاسيما الإنتاج الثقافي العنصري الشوفيني الفارسي المعادي للشعوب المحيطة بالشعب الفارسي. ومن خلال الغزو الذي تعرضت له الحكومات المحلية غير الفارسية من قبل الجيش البهلوي الفارسي في تلك الآونة، تفككت القيادة السياسية والاجتماعية لهذه الحكومات، وفرض عراب الفرس سياسيات تختلف كليا ً ورغبات الشعوب المبنية على عاداتهم وتقاليدهم الضاربة في عمق التاريخ.
يذكر البرفسور الآزربايجاني علي رضا أصغر زادة: “بعد أن تمكنت الحكومة البهلوية من بسط سلطتها في عام 1925، منعت كافة الشعوب من التعلم بلغاتها، وذلك على الرغم أن الشعب التركي والعربي والبلوشي والتركماني وغيرهم من الشعوب الأخرى هم الأكثرية المطلقة، لكن الحكومة البهلوية فرضت اللغة والثقافة الفارسية بالقوة على هذه المكونات التي كانت تتمتع بحقوقها القومية قبل احتلالها من قبل الجيش الفارسي بقيادة رضا بهلوي.
ومن أهم ما تميزت به (سلبياً) الحقبة البهلوية أن المجتمعات غير الفارسية تعرضت لممارسات علنية ووحشية بغية التفريس، ولاسيما إزالة كافة المظاهر الثقافية غير الفارسية، وإجبار هذه الشعوب أن تلتزم الثقافة الفارسية الحديثة في مجتمعاتها، وذلك من خلال النظام التعليمي الجديد الذي جاءت به السلطات البهلوية. وفي الواقع كان الهدف من وراء هذه السياسة تقوية وفرض نوع من الشعور القومي الفارسي القوي في نفوس أبناء الشعوب غير الفارسية.