لقد كان في جعبة النظام العراقي الحاكم المسودة الكاملة للاتفاق الذي سهر على رعايته وتحريره رئيس الوزراء العراقي الراحل عبدالرحمن البزاز إثر محادثات مضنية مع الجانب الكردي توصلا الى اتفاق كاد ان يوقع رسميا لولا انقلاب السابع عشر من تموز 1968. فبعد ان رسخ الانقلابيون اقدامهم بالسلطة قاموا في الحادي عشر من اذار 1970 باعلان منح الحكم الذاتي للأكراد العراقيين وفق المسودة السابقة الذكر مع بعض الاضافات التي اخرجت الاتفاق عن مضمونه الاصلي. إذ يدعو احد بنود الاتفاق الى اقامة انتخابات محاية في كردستان العراق تضفي الى تأسيس مجلس محلي.
لكن العبارة المضافة التي اثارت غضب الاكراد هي منح رئيس الجمهورية صلاحية حل ذلك المجلس وهذا يعني بالطبع نسف محتوى الحكم الذاتي تماما. وعلى اثرها فقدت الثقة بين الحكومة المركزية وقادة الحركة الكردية فرجعوا من جديد الى التحصن بالجبال وعاد القتال بصورة أعنف مما مضى.
بدأت الحركة الكردية في شمال العراق تؤرق مضاجع حكام بغداد وكلما ازدادت قسوة النظام المركزي ضدهم كلما ارتمى قادتهم في احضان الاجانب وبالخصوص ارتباطهم بنظام شاه ايران. في تلك الفترة وبعد حرب اكتوبر 1973 والموقف الشجاع للملك الراحل فيصل بفرض حصار نفطي ضد الدول المساندة للكيان الصهيوني. خلق هذا الفعل ازمة خانقة في اسواق النفط العالمية ورفع بالتالي اسعار النفط فانتعشت اقتصاديات الدول المنتجة برمتها ومنها بطبيعة الحال العراق وايران.
من المعروف ان لدى النظام الشاهنشاهي أطماعاً معلنة وسط وجنوب العراق وبات يمتلك ورقة ضغط مهمة ضد النظام العراقي وهي القضية الكردية في شمال العراق. كان القادة العراقيون الجدد في اشد الحاجة لتثبيت حكمهم بعد ان حسنوا علاقاتهم مع الاتحاد السوفياتي آنذاك على خير ما يرام مما مهد الطريق لدخول الحزب الشيوعي العراقي في جبهة صورية استمرت سنين عديدة مع حزب البعث العربي الاشتراكي الحزب القائد. لم يبق للنظام اذن سوى تسوية علاقاته مع الجار الشرقي الذي يمتلك الكثير من اوراق الضغط السياسية والاقتصادية والعسكرية.
اتصل النظام العراقي بأصدقاء شاه ايران كملك المغرب والرئيس المصري والرئيس الجزائري ويبدو ان القادة العراقيين كانوا على استعداد لمنح شاه ايران ما يريد مقايضة بايجاد حل للمشكلة الكردية. بطبيعة الحال وأمام هذه الاستسلام غير المسبوق سارع الشاه لقبول هذا العرض المغري الذي لم يكن ليحلم به هو شخصيا او والده رضا شاه. هكذا جاء شاه ايران الى الجزائر محملا بمطالب محددة تجلب له المزيد من الهيمنة الاقليمية والاستحواذ على الاراضي والمياه العراقية ضمن مساومة تجري هي الاخرى على الاراضي العراقية وهي القضية الكردية داخل العراق. يعلم الشاه انه امام نظام وضع نصب عينيه البقاء بالسلطة غير مبال بالوطن والمواطنين.
وفق هذه المعادلة غير المتكافئة حضر نائب رئيس مجلس قيادة الثورة صدام حسين وشاه ايران محمد رضا بهلوي بضيافة الرئيس الجزائري هواري بومدين بالعاصمة الجزائرية ووقع الطرفان معاهدة تخطيط الحدود الدولية وحسن الجوار في السادس من اذار 1975 .على ان تعرض على حكومة البلدين ومؤسساتهما التشريعية وبالفعل وقعت الحكومة العراقية المعاهدة مع بروتوكولاتها الثلاثة الملحقة في بغداد بتاريخ الثالث عشر من حزيران 1975.
ومن ثم وقعت الاتفاقيات الاربعة الاخرى مع ملحقاتها في بعداد ايضا بتاريخ 26 كانون الاول 1975 مع الرسائل المتبادلة والمحاضر المشتركة بين مسؤولي البلدين. عند قراءة المعاهدة الدولية وحسن الجوار كما سماها المتعاقدون فإن فقراتها لا تشير لأي تنازل او صفقة سياسية بين الطرفين سواء فيما يتعلق بالحدود البرية او النهرية او الشق الامني لذا يتوجب البحث في طيات البروتوكولات الثلاثة الملحقة للتعرف على حجم التنازلات الكبيرة لايران.
لكن الاتفاقية أسهبت في المواد الرابعة والخامسة والسادسة على ان هذه المعاهدة وبروتوكولاتها الثلاثة نهائية ودائمة وغير قابلة للخرق لأي سبب كان ولا يمكن المساس بالحدود البرية والنهرية لأنها هي الاخرى دائمة ونهائية. كما أن اي خلاف بين الطرفين يتوجب حله بالمرحلة الاولى عن طريق المفاوضات الثنائية المباشرة خلال فترة لا تتجاوز الشهرين. وفي حالة عدم الاتفاق يلجأ الطرفان او كلاهما خلال مدة ثلاثة اشهر الى المساعي الحميدة لدولة ثالثة صديقة. واخيرا اذا فشل هذا المسعى ايضا يصار الى طلب التحكيم خلال مدة لا تزيد عن الشهر ولقرار محكمة التحكيم الدولية الدائمة صفة الالزام والتنفيذ بالنسبة للطرفين المتنازعين. ذكرت المادة السابعة على ان المعاهدة والبروتوكولات الثلاثة الملحقة سجلت في ميثاق الامم المتحدة طبقا للمادة 102.
أما فيما يتعلق بالحركة الكردية وحركة تحرير عربستان فقد تطرق البروتوكول المتعلق بالأمن حول ضرورة تبادل المعلومات حول تحركات العناصر المخربة التي تحاول التسلل الى احد البلدين بقصد ارتكاب اعمال التخريب او العصيان او التمرد في هذا البلد او ذاك. نص البروتوكول كذلك على ضرورة تعاون الطرفين لاتخاذ الاجراءات المناسبة لمراقبة تحركات تلك العناصر ما بين البلدين بما في ذلك غلق المنافذ الحدودية والطرق التي تسلكها كما ذكرت المواد الاولى والثانية والثالثة والرابعة والسادسة والسابعة.
أما المادة التاسعة فقد ضمنت مراقبة فعالة ضد تسلل العناصر المخربة عبر شط العرب وهنا أشاره واضحة الى محاربة ثوار عربستان. أما برتوكول اعادة تخطيط الحدود البرية بين العراق وايران فقد دفعت الحكومتان ترسيمها الى لجنة مختلطة عراقية ايرانية جزائرية على اساس بروتوكول القسطنطينة سنة 1913 وجلسات كومسيون تحديد الحدود التركية الفارسية لسنة 1914 وبروتوكول طهران المؤرخ في السابع عشر من اذار 1975.
واستندت اللجنة ايضا على محضر وزراء الخارجية الموقع عليه بالجزائر في العشرين من مايس 1975 ومحضر اللجنة المختلطة المؤرخ في 13 حزيران 1975 حسب ما ذكرته المواد الاولى والثانية والثالثة والرابعة والخامسة. أما بقية المواد فتتعلق بالخرائط والدعامات الحدودية على الارض او في علامات الحدود في شط العرب.
يتلخص بروتوكول تحديد الحدود النهرية من جهة اخرى في مادته الاولى بأن الحدود النهرية في شط العرب جرى تخطيطها وفق خط الثالوك أي أعمق النقاط على طول محور وادي شط العرب من قبل اللجنة المختلطة العراقية الايرانية الجزائرية على اساس بروتوكول طهران ومحضر وزارة الخارجية اللذان ذكرناهما انفا. ثم ذكرت المواد الاخرى احتمالية حصول تغيرات جيولوجية طبيعية في مجرى شط العرب عندها ينبغي الرجوع الى الاجهزة الفنية المختلطة وبالتالي سيبقى خط الثالوك هو الاساس الثابت حتى لو حصلت تغيرات جيولوجية. علما بأن تلك التغيرات ستكون على حساب العراق.
تتحدث بقية المواد عن البحر الاقليمي عند مصب الشط لكل بلد والاستفادة منه وتنظيم مرور السفن التجارية والعسكرية وتأسيس لجنة ملاحية مختلطة حسب مبدأ الحقوق المتساوية بالشط. ان من يقرأ نصوص الاتفاقية وبروتوكولاتها الثلاثة والاتفاقيات الاربعة الملحقة اضافة الى المحاضر يخرج بخلاصة مفادها ان ايران ومنذ اتفاقية ارضروم حتى اتفاقية الجزائر تتقدم حدودها على حساب الاراضي العراقية بصورة منهجية.
ففي اتفاقية الجزائر تمكن شاه ايران من مساومة النظام العراقي بقضية عراقية داخلية في الشمال للسيطرة على مناطق حيوية عراقية في الجنوب وهكذا قايضت ايران المشكلة الكردية مقابل الاستحواذ على اراض عراقية في غاية الاهمية عندما وافقت السلطات العراقية التنازل عن تصف شط العرب وأراض اخرى.
في حين كان لدى النظام العراقي الكثير من الاوراق السياسية التي من الممكن ان يمارس فيها ضغوطا كثيرة وكبيرة على ايران منها على سبيل المثال لا الحصر مساندة قائد المعارضة الاسلامية الايرانية اية الله الخميني المتواجد في النجف الاشرف منذ اكثر من عشر سنين. والوقوف الى جانب الثوار العربستانيين. ومعاونة الحركة الكردية في ايران التي تطالب بحقوقها المشروعة والتي عانت الكثير من الاضطهاد في عهد الشاه. وللمقال بقیة.
بقلم: د.نصيف الجبوري
نقلا عن “الزمان”.
العنوان الأصل في المقال:
االعلاقات العراقية ــ الإيرانية
التنازل عن نصف شط العرب لإيران عام 1975