دقت طبول الحرب الاقتصادية ضد إيران بانسحاب الولايات المتحدة من الاتفاق النووي في مايو الماضي، وفرض عقوبات جديدة على طهران.
حرب ذات أوجه مختلفة ولاعبين متعددين، ولكن تبقي إيران الميدان الرئيسي للصراع في حرب وقودها أجهزة الطرد المركزي والبنية الاقتصادية والنفط والبنوك والتجارة.
ومنذ 4 عقود والعلاقات الإيرانية-الأميركية بين شد وجذب، أو بمعني آخر أقرب إلى الحرب على مختلف الأصعدة: الحرب الجاسوسية والحرب الاقتصادية والحرب الإلكترونية التي بلغت ذروتها في 2009 عندما هاجم الخبراء الأميركيون أجهزة الحاسوب لمفاعل نطنز النووي بفايروس استوكس نت (Stuxnet) الذي تسبب بإيجاد خلل في عمل آلاف أجهزة الطرد المركزي في هذا المفاعل وتفجيرها في نهاية المطاف.
ولكن، كان للحرب الاقتصادية المتمثلة بالعقوبات أكثر وقعاً على إيران وارغامها بالحضور إلى طاولة المفاوضات والرضوخ لمطالب الدول العظمى وعلى رأسها الولايات المتحدة الأميركية، فاستطاع أوباما في 2015 من خلال العقوبات أن يحشد إجماعاً دولياً ضد إيران ويرغم أصحاب نظرية ولاية الفقيه على الجلوس إلى طاولة الحوار مع “الشيطان الأكبر”، الاسم الذي يطلقه الإيرانيون على الولايات المتحدة.
لكن استراتيجية الرئيس الأميركي الحالي، دونالد ترامب، في إعلان الحرب الاقتصادية أخذت منحى أكثر صرامة وشدة.
وأعلنت الولايات المتحدة انسحابها من الاتفاق النووي في مايو الماضي. كما طرحت الإدارة الأميركية 12 شرطا على إيران إن كانت تريد الجلوس إلى طاولة الحوار، أهم هذه الشروط التي جاء ذكرها على لسان وزير الخارجية، مايك بومبيو، هي وقف البرامج النووي بشكل كامل، وتعليق تطوير الأسلحة الصاروخية، وعدم التدخل في شؤون دول الجوار، والكف عن دعم الميليشيات الإرهابية كحزب الله، والحوثيين.
وبعد هذا القرار بدأت مرحلة جديدة من الضغوط على إيران، تلتها عقوبات على تجارة الذهب والمعادن النفيسة وبعض الصناعات. هذه الخطوات الأولية أثرت بشكل سلبي على الاقتصاد الإيراني، حيث فقد الريال اعتباره أمام الدولار الأميركي حتى وصل من 43000 ريال للدولار الواحد في نهاية عام 2017 إلى 110000 ريال في الأيام الأخيرة.
وارتفعت أسعار كل المنتجات في الأسواق الإيرانية إلى ثلاث أضعاف أو أكثر. خاصة المواد الغذائية التي تؤثر على حياة المواطن العادي. وتتصاعد الأزمة يوماً بعد يوم حتى أدت إلى الإطاحة باثنين من الوزراء من قبل البرلمان، ونفس المصير ينتظر الرئيس الإيراني حسن روحاني.
الحزمة الأولى من العقوبات دفعت الشركات الغربية للانسحاب من إيران، وإلغاء العقود التي أبرمتها مع طهران بعد الاتفاق النووي مثل شركة شل النفطية، وشركة بيجو لصناعة السيارات، وشركة سيمنز، وعملاق الشحن البحري ميرسك، بالإضافة إلى شركة لوك أويل، على الرغم من كونها روسية لكنها قررت الالتزام بالعقوبات. كما أوقفت شركات الطيران البريطانية والهولندية والفرنسية رحلاتها إلى طهران بسبب العقوبات.
ولكن ما سيحل بالاقتصاد الإيراني بعد تفعيل الحزمة الثانية والأخطر من العقوبات في الرابع من نوفمبر الثاني المقبل سيكون كارثيا.
وستشمل المرحلة الثانية النفط، شريان الاقتصاد الايراني. حيث تعتزم الولايات المتحدة خفض صادرات النفط الإيراني إلى الصفر حسب برايان هوك، مسؤول فريق العمل الخاص بالملف الإيراني في وزارة الخارجية الأميركية.
ومن جانبها تحاول الولايات المتحدة جمع عدد أكبر من الحلفاء في حربها ضد إيران. وفي هذا المضمار تحاول إقناع الاتحاد الأوروبي للانضمام إلى حلفها.
ولعل الثغرة الكبيرة في جبهة الولايات المتحدة هي الاتحاد الأوروبي، حيث يريد النظام الإيراني أن ينفذ من خلاله لإضعاف الموقف الأميركي. ولكن تهديد ترامب بالخروج من حلف الناتو وإبقاء أوروبا وحيدة أمام الخطر الروسي قد يرغم دول الاتحاد على تعديل وجهات نظرها.
بالإضافة إلى العقوبات التي قد تطال الدول والشركات الأوروبية التي تنوي التعامل الاقتصادي مع إيران. ويستبعد الخبراء أن تضحي أوروبا بأكثر من 750 مليار دولار من المبادلات التجارية مع أميركا، بأقل من 20 مليار دولار مع إيران.
وفي المقابل تبدو الخيارات المتاحة أمام إيران محدودة للتصدي للحرب الاقتصادية والتهديدات المتزايدة ضدها. الخيارات التي تبدو كلها مصحوبة بالمخاطر والمجازفات. داخلياً على إيران أن تقنع شعبها بتحمل سياسة التقشف، وخارجياً تعول على الصين وروسيا والميليشيات المسلحة التي تدعمها في دول المنطقة.
محلياً تسود المجتمع الإيراني حالة من الامتعاض والاحتقان شملت كل شرائح المجتمع. الأخبار المتوالية بشأن الاختلاسات والفساد المالي الذي ينخر جسد النظام من الداخل جعل المواطن العادي يشعر بالخذلان من جراء سياسة النظام الخارجية والاقتصادية. والناس يزدادون فقراً، خاصة أصحاب الرواتب الثابتة والطبقة الوسطى، حيث يرون أن رواتبهم لا تكفيهم لسداد احتياجاتهم اليومية. ويشعر المواطنون الإيرانيون بأن النظام السياسي يخذلهم ويبذل أمولهم على ميليشيات مثل حزب الله والنظام السوري.
وفي ديسمبر 2017 سادت البلاد موجة من الاعتراضات والاحتجاجات ضد التدهور الاقتصادي، شاركت فيها شرائح مختلفة من المجتمع بما فيهم البازار(السوق)، الحليف الاستراتيجي لحكام طهران.
وبالإضافة إلى الأزمة الاقتصادية هناك أزمات وتحديات كبرى تواجهها إيران، كعدم وجود حريات سياسية، ومطالبات الشعوب غير الفارسية، والانتهاكات الصارخة لحقوق الإنسان، مثل اضطهاد الأقليات الدينية والأقليات القومية، وارتفاع نسبة الإعدامات، وانتهاك حقوق النساء، والأزمات الاجتماعية مثل البطالة المتفشية والإدمان والفقر المتزايد.
وفيما يخص الشعوب غير الفارسية، فإن هذه الشعوب كانت وما زالت تشكل أزمة حقيقية للنظام في طهران، فهي محبطة من ممارسات الحكومة ضدهم ومن إهمال مطالباتهم من قبل هذا النظام، الذي لا يرون أي اختلاف بينه وبين النظام السابق.
ولو أخذنا نموذجا عرب الأحواز، الذين جاء ذكرهم في خطاب وزير الخارجية الأميركي بومبيو أمام الجالية الإيرانية في أميركا في يوليو الماضي، يتبين لنا مدى امتعاض هذه الشعوب من الدولة الإيرانية.
ويشكل الأحوازيون نسبة تتراوح ما بين 10 بالمئة إلى 13 بالمئة من سكان إيران، ويقطنون في الجنوب والجنوب الغربي على الحدود العراقية والضفة الشمالية للخليج العربي. أكثر من 90 بالمئة من موارد النفط الإيراني تأتي من الأحواز. وكانت الأحواز من أهم مناطق الإنتاج الزراعي والثروة السمكية.
وحسب تقارير الأمم المتحدة، ومنظمات حقوق الإنسان العالمية، عانى الأحوازيون على مدى تسعة عقود من شتى أنواع التمييز، والعنصرية، والسياسات الممنهجة لمحو هويتهم والتي تستهدف وجودهم. وبعد انتصار الثورة في 1979 وإقامة ما سمي بالجمهورية الإسلامية، استمر النظام الحالي في سياسة التهميش ونهب الثروات وإبقاء الشعب فقيرا، حيث أصبحت الأحواز تحتل المرتبة الأولى من ناحية البطالة والفقر على مستوى البلاد على الرغم من الثروات الهائلة.
هذا الاضطهاد، والإهمال، والضغوط المتزايدة ضد العرب الأحوازيين، دفعهم إلى الاحتجاج والتظاهر والمطالبة بحقوقهم. واستمرت احتجاجات الأحوازيين كل عام تحت عناوين مختلفة. على سبيل المثال منذ بداية عام 2018 نشبت 3 انتفاضات واسعة النطاق في منطقة الأحواز غير الاعتراضات الصغيرة للعمال، والمزارعين، والطلاب التي تصل إلى أكثر من 900 حالة حسب المراقبين للشأن الإيراني.
إن حالة الأقاليم الأخرى في بلوشستان، وكردستان، وأذربيجان مماثلة للوضع الأحوازي، وإن النظام على يقين أنه لا يمكنه المراهنة على دعم هذه الشعوب، التي تتطلع إلى مستقبل أفضل بعد ما عانت الويلات من الأنظمة الإيرانية المتعاقبة.
ويعتقد الكثير من المراقبين أن النظام الإيراني فقد شرعيته داخلياً ولم يبق له إلا فئة قليلة يراهن عليها هم قوات التعبئة، أي الباسيج، وبعض عناصر الحرس الثوري. لذلك، التعويل على الدعم الشعبي في الحرب الاقتصادية لا يبدو خياراً يمكن لإيران أن تراهن عليه.
وموضوع إنشاء ودعم الميليشيات المسلحة في دول المنطقة بات أمرا يعرفه الجميع لا يحتاج إلى براهين. والأمر لا يقتصر على الميليشيات الشيعية مثل حزب الله اللبناني، والحوثيون في اليمن، فحسب، بل دعمت إيران تنظيم القاعدة، وطالبان، وهناك تقارير عن تواطئها مع داعش.
وفي ظل الحرب الاقتصادية قد يلجأ صانع القرار الإيراني إلى استخدام هذه الميليشيات كورقة ضغط على دول الجوار والولايات المتحدة.
وبالاستناد إلى هذا الخيار، من المحتمل أن تزداد وتيرة العمليات الإرهابية في دول المنطقة في الفترة الزمنية المقبلة. ولكن تجربة سوريا والمستنقع الذي توغلت فيه إيران، وكذلك تجربة دعم الحوثيين في اليمن أثبتتا مدى التكلفة السياسية والمالية الباهظة التي على إيران أن تتحملها خاصة في ظل الحصار المفروض والمتزايد.
ولعل التعويل على الدعم الصيني والروسي يكون من أقوى الأوراق التي يراهن عليها الإيرانيون. فقد صرحت الصين بأنها من المحتمل أن تستمر بشراء النفط الإيراني بعد إبرام المرحلة الثانية من العقوبات في نوفمبر.
ولكن الصراع القائم بين الصين والولايات المتحدة بشأن فرض رسوم جمركية على الصادرات الصينية إلى الولايات المتحدة قد يدفع الصين إلى إعادة النظر وتعديل موقفها، خاصة أن مقارنة الأسواق الأميركية مع السوق الإيرانية تكون مقارنة خاطئة.
وفيما يخص روسيا فإنها تواجه عقوبات من جانب الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي. وأهم ما في الأمر أن إيران تبحث عمن يشتري نفطها، وبما أن روسيا من الدول المنتجة للنفط فإنها لن تستطيع تقديم الكثير في هذا المجال.
وفي ظل ازدياد وتيرة الضغوط على إيران يسأل البعض عن إمكانية خروج إيران من الاتفاق النووي وإعادة تخصيب اليورانيوم، وتطوير الأسلحة الباليستية والصواريخ، أو خيار خلط الأوراق، والهروب إلى الأمام والدخول في حرب غير مباشرة مع إسرائيل.
وهذا قد يُدخل إيران في نفق مظلم لا يمكنها تصوره، مما سوف يؤدي إلى خروج الاتحاد الأوروبي من الاتفاق. وحتى روسيا بسبب علاقاتها مع إسرائيل سوف لن تقف إلى جانب إيران، وفي أحسن الحالات ستأخذ جانب الحياد، ونتائج هذين الخيارين سوف تكون كارثية على إيران.
أما الخيار الذي يفضله “المعتدلون” في إيران فهو الرضوخ للشروط الأميركية والحضور إلى طاولة الحوار المطروح عليها كل الملفات، خاصة الملف الصاروخي والتدخلات في شؤون دول الجوار. الأمر الذي يعارضه خامنئي والمتشددون في إيران لأنهم يعلمون جيدا أن الحضور إلى طاولة المفاوضات يعني التخلي عن أمور تعتبر جوهرية بالنسبة لإيران.
إيران تظن أن بإمكانها الصمود حتى عام 2019 على أمل أن يفشل الجمهوريون في الانتخابات النصفية للكونغرس والشيوخ المزمع إجراؤها في نوفمبر 2018، أو تترقب إمكانية إقالة ترامب بسبب تواطؤ مسؤولي حملته الانتخابية مع الروس.
وفي المقابل يراهن الأميركيون على أمل أن تجني العقوبات ما يبحثون عنه، واضعين أملهم على احتمال موت خامنئي، الذي يعتبرونه أهم عقبة في تطبيع العلاقات بين البلدين.