أول ما يبدأ به المستعمر تغيير هوية المستعمرة الخاضعة له عسكريًا, حتى يتاح له أن يسيطر عليها سياسيًا واقتصاديًا وثقافيًا, ذلك أن عدم دمج المستعمرة في كيان دولة الاستعمار سيعني فشل عملية السيطرة عليها, وبالتالي تحررها من قبضة المستعمر. وحقيقة لقد عرف ساسة طهران ذلك وبرعوا كقوة احتلال في طمس هوية البلاد التي احتلوها, والأحواز شاهدة على ذلك. فقد حاول الإيرانيون منذ قرون, أن يكون لهم موطئ قدم على الخليج العربي, فكانوا إذا غزوا المنطقة, يبدؤون بتغيير تركيبتها السكانية, فيقومون بتهجير عشائرها العربية لتحل محلها عشائر إيرانية.
وأبرز من إنتهج هذه السياسة نادر شاه مؤسس الدولة الأفشارية, حين غزا الأحواز العام 1734م بجيش تحت قيادة “طهماسب جلاير” الذي هجر أهالي بعض الموانئ الأحوازية باقتيادهم عبر صحراء كرمان إلى خراسان, حيث لا يزال جمع من سلالة هؤلاء المهجرين يعيشون هناك في بلدات وقرى عدة, أبرزها في الريف الجنوبي لخراسان في منطقة “عربخانه” (أي بيوت العرب).
لكن مع هذا ورغم سياسة الغزو والتهجير هذه, لم يستطع الإيرانيون أن يسيطروا على أي جزء مهم من الأحواز, فما كان من الدولة الإيرانية إلا أن احتلت الأحواز عسكريًا في 1925م بتغطية وتواطؤ من بريطانيا العظمى, لتبدأ مع هذا الاحتلال مرحلة جديدة من سياسة التطهير العرقي, حيث أخذت في زمن رضا خان البهلوي (الشاه لاحقًا) طابعًا عسكريًا مباشرًا, فيما أخذت في زمن ولده محمد رضا شاه طابعًا مركبًا يجمع بين سياسة أبيه وسياسة جديدة تمثلت في “تفريس” الأرض والإنسان الأحوازيين, والتي سرعان ما أخذت تتضاعف شيئًا فشيئًا بعد سقوط الشاه ومجيء الخميني الذي كان لنظامه المجهود الأكبر في تغيير الطابع السكاني للأحواز.
وقد ثبت للأحوازيين أن هذه السياسات الإيرانية المتعاقبة أضحت منهجية وأكثر مؤسساتية في ظل “ولاية الفقيه”, بعدما سُرب في مارس 2005م من مكتب “رئيس الجمهورية الإيرانية” محمد خاتمي وثيقة تحمل توقيع مدير مكتبه محمد علي أبطحي, تنص على وجوب: (استمرار الدولة الإيرانية في السياسات السابقة – أي سياسات التهجير والاستيطان – على ضوء قرارات مجلس الأمن القومي الإيراني المتعلقة بتغيير البنية السكانية للأحواز بحيث يتم تهجير الأحوازيين إلى المدن الإيرانية مقابل هجرة معاكسة من الإيرانيين نحو الأحواز, إلى أن تنخفض نسبة العرب في الأحواز أمام المستوطنين الإيرانيين لتصبح 1 مقابل 3).
الكشف عن محتوى هذه الوثيقة الخطيرة التي تهدف إلى تغيير ديموغرافية الأحواز لصالح الإيرانيين, أدى إلى انفجار انتفاضة شعبية عارمة في 15 أبريل 2005م, عرفت بانتفاضة نيسان, والتي يحيي الأحوازيون ذكراها التاسعة هذه الأيام مطالبين في كل عام المجتمع الدولي بأن يضطلع بمسؤولياته الأخلاقية والقانونية تجاه الأحواز والأحوازيين, بينما تستمر عمليات الاستيطان الإيرانية على قدم وساق.
وقد كان لصحيفة “السياسة” السبق في تسليط الضوء على عدد كبير من تلك المشاريع اللا إنسانية الإيرانية التي كشفت عنها مؤسسة الدراسات القومية الأحوازية, منها:
-مقال للأستاذ داود البصري نشر في سبتمبر 2005م بعنوان: “التطهير العرقي في الأحواز, غياب الموقف الدولي”, يشير فيه إلى مشروع “أروند” الذي كشفت عنه مؤسسة الدراسات, والهادف إلى تدمير ما بقي من ملامح عربية مندرسة في الأحواز من خلال إنشاء موانىء ومناطق حرة إيرانية, على مساحة واسعة من عبادان والمحمرة وجزيرة الصلبوخ.
– وتقرير آخر نشر في نوفمبر 2008م يتحدث عن أكبر عملية تغيير ديموغرافي تنفذها السلطات الإيرانية بتوطين 11 مليون نسمة في الأحواز, والهدف منها تغيير الطبيعة الديموغرافية لمنطقة الخليج العربي برمتها.
– وتقرير آخر نشر في سبتمبر 2010م يتحدث عن توطين خمسة ملايين إيراني في الأحواز للقضاء على عروبتها وطمس قضيتها من خلال مشروع يقوم على ثلاث مراحل (تقسيم الأحواز الشمالية إلى ثلاث محافظات إيرانية جديدة هي خوزستان الشمالية وخوزستان الجنوبية وأروندان) ويرسي قواعد التحالف الجديد بين طهران وبغداد ودمشق.
لمن يدرس سياسة التطهير العرقي الإيرانية هذه ستراتيجيًا, يجدها تتطابق مع ما قام به “ستالين” في آسيا الوسطى من تلاعب في تركيبتها السكانية لصالح العرق الروسي, ونرى اليوم كيف تدفع الجمهوريات السوفيتية السابقة ثمن هذا التلاعب.
وسبق أن أشار السيد أنثوني بايسونز – آخر سفير بريطاني في طهران في عهد الشاه – إلى هذه السياسة في مذكراته بالقول: (كانت إيران عام 1974م ميدانًا لتناقضات مدهشة, فقد كانت الحضارة وفقا لما شاهدته فيها قد وصلت إلى ما هو موجود في أوروبا الغربية, إلا أني حصلت على انطباع مغاير, وهو أن شيئًا لم يتغير في هذا البلد بعدما شاهدت أرصفة المحمرة في رأس الخليج العربي, حيث بقيت يائسًا من إمكانية وصول الحضارة إلى هذه المنطقة. إن مشهدًا كهذا كان سيرهب هرقل). فما أشبه اليوم بالبارحة.