النظام السوري يتآكل
ترغم الجماهير في الدول الديكتاتورية على تبني النضال بشتى أنواعه للمرور من مرحلة إلى أخرى عندما تصبح الأمور حرجة جداً، المرحلة التي يصفها علم الاجتماع السياسي بـ”تآكل هيكل النظام”، خاصة في مرحلة حيث لا يتسنى أو يتردد الحاكم في قمع من يقف أمامه مهما كان الثمن، بغية الحفاظ على حكمه وفرض سلطته، فمن هنا ترتكب المجازر وتبدأ النقطة التي تسمى بمرحلة تآكل هيكل النظام.
في نظرة على ما حدث من مجزرة بشعة، حصدت أرواح الأبرياء من أبناء الشعب العربي السوري في حماة، وسقوط الضحايا في مختلف أنحاء سوريا، نرى أن التآكل وصل إلى العمود الفقري في جسد النظام الحاكم بدمشق.
إحدى وجوه تآكل هيكل السلطة ودخول الأرضة في جسد الحكومة السورية يتبلور بعسكرة البلد. بدأ التآكل في هيكل الحكومة السورية منذ عقود، واليوم نراه أكثر وضوحاً من الماضي، حيث المعلومة باتت ملك الجميع، ولن تستطيع السلطات أن تخفي الأخبار نتيجة الثورة المعلوماتية التي نعيشها.
ولتآكل جسد النظام السوري النحيف وجوه عدة، تتمثل بسقوط أهم أركان النظام. تبنى الحاكم في الشام التعريف بأساطير حتى تصبح هذه الأساطير كأساطين النظام ومصدر قوته بعد سنين، وعند انهيار أي من هذه الأساطين يجتاح الشلل جسد النظام الأمر الذي قد يؤدي بالبلد إلى حافة الهاوية.
استورث هذه الأساطير الأسد الابن من الأب كـ”المقاومة” و”العدالة الاجتماعية” و”الكياسة السياسية في إدارة البلد داخلياً وعلاقاته خارجياً” و”الجمهورية”. أربعة أساطير التي رفعت بنظام دمشق وأوصلته أن يحكم سوريا طيلة الأربعة عقود الماضية.
جاء مفهوم “المقاومة” بعد الزواج السياسي بين دمشق وطهران عندما دعمت الأخيرة بعض الفصائل الفلسطينية و”حزب الله” عبر دمشق، وذلك سبب نتيجة عكسية مما نحن فيه اليوم من وضعها حكراً على بعض التيارات، حيث كان الشعب الفلسطيني يخوض المعركة ضد إسرائيل بشتى فصائله وقياداته الوطنية وبدعم من الجماهير العربية والإسلامية والكثير من الشرفاء في أنحاء العالم.
وأكتفي هنا بخمس نقاط فقط كي أثبت أن المقاومة باتت شماعة للاستمرار في الحكم، الأمر الذي أدى بالشلل الحقيقي في الجسد السياسي الفلسطيني، والتشرذم الذي أصبح سيد الموقف في نضال الفصائل الفلسطينية نتيجة تدخلات جهات أجنبية، منها الجمهورية الإسلامية الإيرانية، وحصل كل هذا من خلال علاقة النظام السوري بإيران.
أولاً: أن الجيش السوري لم يطلق رصاصة واحدة على الجيش الإسرائيلي طيلة أربعة عقود منذ احتلال الجولان ليومنا هذا.
ثانياً: اتخذ الرئيس السوري الصمت حينما دمرت إسرائيل مركزاً يزعم أنه كان لأبحاث نووية كان قيد الإنشاء في الجبل الأبيض بمحافظة دير الزور ناهيك عن التحليق اليومي تقريباً للطيران الإسرائيلي في أجواء سوريا، والذي لا تعكس أخباره السلطات في دمشق على الرأي العام.
ثالثاً: اختصر مفهوم المقاومة بتأسيس حزب الله والجهاد الإسلامي إيرانياً ومن ثم توسع حزب الله في لبنان وإعطاءه دوراً كي يمثل كل من طهران ودمشق في السياسة الداخلية اللبنانية عبر التضخيم في الدور التي لعبته هذه المليشيات المسّيسة.
رابعاً: تغييب الدور الحقيقي للشعب الفلسطيني من الخارطة السياسية الإيرانية-السورية فيما يخص مفهوم المقاومة والنضال ضد الإسرائيلي المحتل.
خامساً: إذ قبلنا أن السلطة الوطنية الفلسطينية رغم كل الخلافات الفلسطينية تبقى هي الممثل الشرعي لهذا البلد العربي المحتل، ترى رام الله أن ما تقوم به طهران من سياسات عبر قناة دمشق مضر بمصالح الشعب الفلسطيني ويسيء بنضال هذا الشعب ومقارعته المحتل.
إذن نرى أن أسطورة المقاومة وهذا الشعار أصبح بالياً اليوم لدى الشعب السوري المتنوّر والمتشبع بشتى المشارب الفكرية والسياسية.
هكذا أصبحت العدالة الاجتماعية وهماً يعيشه السوريون منذ عقود حين تغيرت السياسات الاقتصادية في البلد وأخذت بخطوات غير دقيقة نحو الخصخصة، وظهر تيار قوي يتمتع بحصانة أمنية رفيعة المستوى في الشام متمثل بأسرة المخلوف وغيرهم من المافيا الاقتصادية، التي خلفت الفقر والحرمان في بلد يستطيع المواطن فيه العيش بكرامة عبر الموارد المادية من السياحة فقط، ناهيك عن الموارد الطبيعية الأخرى حسب تقدير الاقتصاديين.
نرى أن الأخلاق والتحكيم بالكياسة في فن السياسية لإدارة البلد اصبح حلماً لا أكثر لدى المواطن السوري. حيث لا يستطيع أي مواطن أن يحصل على أدنى حقوقه إلا عبر الرشاوى والوساطة والمعارف في دوائر الأمن.
وهنا أتذكر نكته من أحد الشباب الأهوازيين حين كنّا مقيمين في الشام منذ 2007 حتى 2009 حيث قال إنه إذا قررت إسرائيل أن تحتل قسم من سوريا لا يلزمها إطلاق رصاص وخوض الحرب، حيث تستطيع عبر الطائرات العمودية أن تضخ مسكوكات من العملة السورية “الليرة” على المعسكرات والدوائر الأمنية حتى تشغل الجيش والأمن بتجميع المصاري وتتم عميلة احتلال تلك المنطقة دون حرب.
وتشير النكتة إلى حقيقة مرة وهي شدة الفساد المتفشي في السلطات المختلفة في البلد خاص في دوائر الأمن والشرطة والجيش الذين من المفروض يكونوا سوراً لسوريا.
وعن أخرى أساطين النظام أي “الجمهورية” أيضاً أصبحت مفهوماً لا مفهوم له في سوريا، حيث النظام أعلن مسبقاً الوراثة قبل ممات الرئيس وبعد وفاة حافظ الأسد تم تغيير الدستور لتمهيد الطريق لرئاسة بشار. نشاهد أن التوريث قضى على مفهوم الجمهورية ولا معنى للانتخابات رئاسية كانت أم برلمانية أو بلدية، حيث منتصبو هذه المؤسسات هم رجال الأمن وعصابات المافيا الاقتصادية التي ابتلعت ثروات البلد طيلة حكم الأسدين.
إذن نرى انهارت جميع أساطين الحكومة ولا يخفى شيء عن أنظار المواطن، الجولان مازال محتل والاقتصاد متردي والفساد متفشي وقمع الشعب هو أكسين لاستمرار السلطة والمافيا الاقتصادية تعيش في قصر الشعب (!) على جبل قاسيون والتوريث قائم ولا معنى لصوت الشعب في بلداً تنصب على بوابته لافتة الجمهورية !
من الأوجه الأخرى في تآكل هيكل السلطة ما هو إلا غياب السيطرة على الأمور لدی العقل السياسي المتحكم في دوائر صنع القرار، حيث أصبح مفهوم الإجرام في حق الشعب ما هو إلا القوة والصلابة بأم عينيها والأسلوب الناجع للحكم وإدارة البلد!.
إن القوة ليست بمعنى القمع وعلاقة القوة بالقمع علاقة معكوسة، حيث يمر مفهوم القوة في البلدان المتطورة عبر سيادة المواطن وأن تجعل السلطة من أبناء بلدها أناس يشعرون بالمسؤولية، وذلك عبر تقوية الروح الوطنية لديهم وليس بإسكاتهم عبر أدوات القمع، حيث نرى أن الشعب العربي السوري أخذ الصمت طيلة العقود الماضية نتيجة رهان هذه الجماهير على ما تسمى بالمقاومة واسترجاع الجولان المحتل وبناء اقتصاد قوي يعيش المواطن السوري في بلده بكرامة وتسود الحرية والإنسانية ببلاد الشام.
ففي الحين الذي نرى أن حكومة سوريا تريد أن تفرض سيطرتها في البلد عبر القمع المتواصل ضد المواطن الأعزل هنا يتضح الوجه الآخر لها وما هو إلا الخوف وغياب الشجاعة لدى صاحب القرار الأمر الذي سوف ينتهي بسقوط السلطة في البلد لا محاله.
الوجه الآخر في تآكل هيكل السلطة ما هو إلا التحاق الشرائح المختلفة من الشعب السوري بالمحتجين، حيث نرى أن في سوريا منذ انطلاق الحركة الشعبية في درعا شاهدنا كيف التحقت المدن الأخرى بالمعركة تدريجياً، على سبيل المثال، شريحة الطلاب خرجوا للتظاهر منذ الشهر الأول في جامعة دمشق فقط والجميع كان ينتظر خروج أهل حلب، حيث خرج الطلاب في هذه المدينة أن يعلنوا عن انضمامهم الى الثورة وفئات أخرى كأئمة المساجد وضباط الجيش وموظفين وحقوقيين وصحفيين وفنانين، حيث وصلت غافلة هؤلاء إلى ساحة المعركة رويداً رويداً، وهذا دليل واضح على تغيير مسيرة الرأي العام في سوريا حيث أصبح الرأي العام من الإنتاجات الشعبية ولا للسلطة أي سلطة تمنع بها صناعة الرأي العام الشعبي السوري أو الوقوف أمام المد الجماهيري للثورة.
من الأوجه الأخرى الذي قد تتضح لنا خلال الأيام القادمة ما هو إلا تفكيك بنية السلطة عبر خروج عدد من أكبر الموظفين والمفكرين في دوائر صنع القرار، وخاصة على المستوى الأمني، وقد نرى أن كيف يخرج أكبر ضباط الأمن وسيلتحقوا بالقوى المتظاهرة.
بالتالي أرى أن أهم فجوة يعيشها النظام السوري هي فجوة “فكر” حيث نرى أن نظريات البعث لإدارة البلد (أو القطر السوري حسب التعبير البعثي) أصبحتا عائقاً كبيراً أمام التطور والإصلاح نتيجة عدم توظيفهما بشكل صحيح.
لقد شاهدنا نواة هذا الفجوة في عهد الرئيس حافظ الأسد، حيث تصادم مفهوما “الجمهورية” و”الديكتاتورية” الأمر الذي أدى بنظام دمشق إلى ارتكاب مجزرة حماة في الثمانينات من القرن المنصرم، لكن في ذلك الوقت لم تتبدل حماة إلى سوريا كما تبدلت اليوم درعا إلى سوريا الحديثة، حيث حماة عهد الثمانينات تختلف تماماً ودرعا اليوم من حيث المبدأ الفكري للثورة والشعارات وأدوات النضال و الأداء الثوري والوضع الإقليمي والعالمي.
استطاعت سلطة حافظ الأسد أن تبتلع الأزمة حينذاك عبر ارتكاب المجزرة المعروفة لدى الجميع، لكن الآن نحن نعيش أياماً تغيرت فيها الأزمة إلى مرض قاتل دخل جسد السلطة السورية. والطريف هنا أن الحكومة هي من لها ساهمت مباشرة بدخول المرض في هيكلها الذي أصبح متآكل اليوم.
أمام الرئيس الأسد ومن حوله طريق واحد لا أكثر، وما هو إلا تبني الشجاعة في اتخاذ القرار الوطني والمنطقي لحفظ البلد من الاحتلال الأجنبي الذي قد يحدث تحت أي غطاء كان أممي أو ما شابه ذلك، والأخذ بعنان الإصلاح الحقيقي الذي يتمثل بوقف المجازر فوراً واستتباب الأمن وتكوين مشروع دستور جديد للبلاد يعلن مسبقاً عن فحوى هذا الدستور أن مفهوم “التوريث” شطب نهائياً من القاموس السياسي السوري، وذلك بالمشاركة المباشرة من جميع الأحزاب والفصائل السياسية المعارضة في الداخل والخارج والقضاء التام على المافيا الاقتصادية وإعادة النظر بعلاقاته مع إيران للحيلولة دون تشييع الشعب السوري على يد ملالي طهران حتى كل هذا يصبح في رصيده للدفاع عن نفسه من الجرائم المنسوبة إليه ومن حوله وخدمة لوطنه إن كان محب لسوريا وإن حدث عكس ذلك سوف يقدم البلد على طبق من ذهب إلى جهات أجنبية حيث يبقى التاريخ يكرر لعنة بشار.