اثبتت “إنتفاضة نيسان” للشعب العربي الاحوازي، صدق ما ذهب اليه معظم المحللون والباحثون في حقل العلوم السياسية والاجتماعية من أبناء الشعوب الإيرانية والشعب العربي الاحوازي، من خلال مئات المقالات والابحاث والرسائل والمؤتمرات والاجتماعات خلال السنوات الاخيرة.
كان شبه إجماع بين هؤلاء المثقفون على بنيوية الخلل (الخلل في البنيوية) وتاريخيته وأن الطريق الوحيد لإجتياز تلك الأزمة التاريخية هو إعادة إنتاج علاقة جديدة بين المركز والمناطق القومية وتعريف تلك العلاقة بناء على أسس علمية حديثة وتعديل وتغيير تلك البنى المعيقة.
تلك العلاقه التي إستلهمت أسسها الفكرية والمنهجية من التراث العنصري(Ethnocentrism) للشعب الفارسي ونخبه الفكرية والسياسية و”مانيفسته” المعروف بشاهنامه فردوسي والمثقفين الفرس المتأزمين بالعصر الحديث.
ذلك الخطاب العنصري والعدائي لكل ما هو غير فارسي الذي صب جام غضبه على أبناء الشعب العربي الاحوازي، حيث أصبح العربي في هذه البلدان مدان حتى تثبت برائته وقد غـُيـّبَ وتم تهميشه بشكل منهجي وعنصري وصارت رأس حربة تلك السياسات التعسفيه تطعنه في شتى المجالات السياسية منها والإجتماعية والثقافية والاقتصادية.
الإنتشار الجغرافي الواسع للعرب في إيران يعود الى سياسة إقتلاع شريحة واسعه من هذا الشعب عن أرضه وجذوره الطبيعية والتاريخية.
اما بالنسبة لكافة الشعوب الإيرانية فلا يوجد ذكر رسمي لهم، حيث تسمي المكونات الاساسية للدولة الايرانية على أنهم “قبائل وعشائر” وليست شعوب يمتلكون كافة مقومات الشعب، من تاريخ وذاكرة تاريخية مشتركة ووحدة جغرافية ولغة وثقافة… والحقيقة أن ايران بحكم تكوينه التاريخي والجغرافي والمعيشي يتكون من عدة شعوب رئيسية وكذلك طوفسيفساء قوميات دينية ومذهبية وطوائف [i] ، حيث يشكل الأتراك سبعة وعشرين مليون نسمة والاكراد سبعة ملايين والعرب خمسة ملايين والبلوش مليونين والتركمان مليون ونصف واللر سبعة ملايين والكيلك مليون والطالش والهزارة والتتار والارمن والاشوريين و… والفرس هم احد مكونات هذه الدولة ولايتجاوز عددهم السبعة عشر مليون نسمة، حيث تكونت على إثر تلك العلاقة التي اِمتدت آلاف السنين، نوع من الفيدرالية المحلية غير المكتوبة وترسخت بناها وجذورها في عمق تلك العلاقة والواقع السياسي والاجتماعي والثقافي والاقتصادي.
لكن تلك البنى و العلاقة تغيرت عند مطلع قرن العشرين و تم اِستبدالها بنسق سياسي معين بنسخة مشوهة من التجربة المركزية الفرنسية المسماة “بالدولة_شعب” ( NATION STATE ) حيث تم تفريق تلك التجربة الفرنسية من محتواها و تم الغاء المواطنة و الديمقراطية و المشاركة في شتى المجالات، لغرض اِستفراد و اِستـئثار الشعب الفارسي في صنع القرار في الدولة الحديثة.
وكانت للمتغييرات الدولية والواقع الجيوستراتيجي الجديد بعد الثورة البلشفية ومجوس الهند وايران والتحالف التاريخي بين التجار وعلماء الشيعة والمثقفين المتأزمين والنخب السياسية والفكرية للفرس، دور هام وأساسي في هذه الولادة القيصرية للدولة الايرانية الحديثة حيث اصبح على اثر هذا النمط والنسق الجديد من مفهوم الدولة علاقة جديدة، أفرزت اِشكاليات متعددة بالنسبة للشعوب غير الفارسية.
فأصبحت المواطنة ولغة الدولة والخطاب الرسمي والارث الثقافي والتاريخ وغيرها تقتصر على الفرس ولايستطيع احد التمرد على ذلك. وتم تقرير سياسات قومية ومنهجية تعسفية من أجل خلق واقع جديد ومفهوم جديدة للمواطنة تسمى “عملية صنع الشعب” (فرايند ملت سازي)، لتكريس ذلك الواقع المأساوي والعنصري.
فحدثت على اثر تلك السياسات التعسفية والشوفينية، أزمات قومية شاملة اِستمرت لمدة ثمانية عقود، وكانت البداية بُعيد ولادة تلك الدولة الحديثة وبوتيرة متفاوتة، مع تطور الشعور القومي للشعوب الإيرانية خلال السنوات الاخيرة وبلورة الوعي القومي لديهم. حيث أخذت الأزمة(الانتفاضات القومية) منحاً تصاعدياً وتغيير طابع ونمط تلك الإنتفاضات القومية الشاملة من النضال الايجابي(المسلح)، الى السلبي(السلمي والمدني).
كما تطورت مطالب الشعوب الايرانية والشعب العربي الاحوازي خلال العقود الأخيرة الى النضال من أجل استعادة تلك الحقوق التاريخية والانسانية المغتصبة من قبل أحد مكونات الدولة الايرانية(الفرس) حيث ولدت قناعة بين معظم أبناء تلك الشعوب ونخبهم الفكرية والسياسية، بضرورة حق تقرير مصيرهم بيدهم بعيداً عن الواقع السياسي والتاريخي والاجتماعي والثقافي الذي تم تكريسه خلال تلك العقود المظلمة من تاريخ الدولة الايرانية الحديث. هذا الحق الذي تكلفه جميع المواثيق والمعاهدات الدولية والاعلان العالمي لحقوق الانسان.
للشعب العربي الاحوازي ميزة خاصة في تلك العلاقة التي تربط مكونات الدولة الايرانية خلال جل المراحل التاريخية، كانت تلك العلاقة وقبل ولادة ايران الحديثة بين مد وجزر حيث لم تشهد منطقة الاحواز وعلى مدى آلاف السنين الا حقب قصيرة من الوحدة السياسية مع الحكومات والسلالات المتعاقبة على حكومة ايران وهذه الخصوصية تنفرد بها منطقة الاحواز عن باقي مكونات الدولة الايرانية.
اما بالنسبة لسياسة مواجهة تلك الإنتفاضات والأزمات القومية والمطالب التي ترتبت على اِثرها فكانت هي نفس الأسلوب العنصري والهمجي والإفراط باستعمال القوة الغاشمة ضد الشعوب الايرانية والشعب العربي الاحوازي. وكان على الدوام هنالك اجماع بين السياسيين الفرس ونخبهم الفكرية والسياسية وبين الحكومة والمعارضة، اِنطلاقا من مكيال واحد وتفسير واحد وهو تهديد الأمن القومي والحفاظ على وحدة الاراضي الايرانية، يسوّقون من خلال ذلك كل الاساليب الوحشية والهمجية في مواجهة الشعوب العزّل حيث سقط على اثرها مئات الآلاف من القتلى والجرحى وتشرد الملايين خلال تلك الثمانية عقود المظلمة.
وتفسير الصحفي المعارض “ماشاء الله شمس الواعظين” و “مصيب النعيمي” بقناة الجزيرة الفضائية وكذلك “موقع بازتاب” لمحسن رضائي، المعروف بتوجهاته الشوفينية ضد العرب ـ حيث يقول في موقع بازتاب اِن المشاركين في هذه الانتفاضة هم مجموعة من الغجر الذين قدموا من العراق ـ يأتي في هذا السياق بهدف مواجهة الأزمة القومية في ايران، ضاربين كل الأعراف والقوانين الدولية عرض الحائط.
لابد من اخذ الانتفاضة الأخيرة للشعب العربي الاحوازي في سياقها التاريخي والبنيوي من أجل تفسيرها وتحليلها ومن ثم طرح طرق حل للأزمة، للحيلولة دون تكرار هذه المجازر ضد الشعوب الايرانية بشكل عام والشعب العربي الاحوازي بشكل خاص وان تحدد الأولويات بهذا الصدد من أجل حل تلك الاشكاليات والتناقضات القومية. وعلى كافة النخب الفكرية والسياسية من أبناء الشعوب الإيرانية والشعب العربي الاحوازي إثراء الأسس النظرية والمنهجية وتقديم الحلول لهذه الاشكاليات.
اهم أسباب اِلغاء التجربة اللامركزية في ايران واِستبدالها بالدولة_القومية ( NATION STATE )
1. ترجع فكرة انشاء الدولة القومية الجديدة في ايران والتي ترتكز على الشعب الفارسي وتستمد قوتها ومقوماتها السياسية والثقافية والاقتصادية منه، الى الهزائم التاريخية للدولة القاجارية على يد روسيا القيصرية في القرن الثامن عشر والتاسع عشر للميلاد وما ترتب على تلك الهزائم من نتائج كارثية ومعاهدات مذلة، كمعاهدة “كلستان” و “تركمنجاي” حيث أخذ رواد الفكر الفارسي الشوفيني المتأزم، في طرح تناقضات الدولة القاجارية (الآذرية) وأسباب الهزائم التاريخية لتلك الدولة وكتابة الوصفات لحل تلك الإشكاليات وكانت الحصيلة هي كتب ومقالات وبحوث كلها من نتاج بنات خيال هؤلاء المثقفين المتأزمين.
2. المثقفون المتأزمون ورواد الفكر الشوفيني الفارسي
ومن هؤلاء المثقفون: جلال الدين ميرزا، صاحب كتاب “نامه خسروان” (رسالة خسروان) وميرزا فتحعلي آخوندزاده و كتابه “مكتوبات كمال الدولة” والذي يسعي من خلال هذا الكتاب التأسيس لمرحلة جديدة من مفهوم الدولة والغاء كل الركائز التاريخية للدولة الايرانية وكذلك الغاء الاسلام من خلال نهضة ايرانية شاملة على غرار النهضة الاروبية والرجوع الى تاريخ ايران في زمن الامبراطورية الساسانية والأخمينية واعادة نتاج البنى السياسية والثقافية لتلك الامبراطورية [ii] .
وميرزا آقاخان كرماني وكتابه”آيينه سكندري” او “تاريخ ايران” وهذا الاخير هو الذي صنع القواعد وخطة لتطوير القومية الفارسية وخلق وهم تاريخي بالنسبة للقوميين والشوفينيين الفرس، مستمداً كل تلك الاوهام والاغلاط التاريخية من المستشرقين وكتاب “تاريخ ايران”، للدبلوماسي البريطاني “سرجان ملكم”. حيث اخذ يعلق كل تلك التناقضات والفساد والمشاكل لدى الدولة القاجارية على شماعة العرب والاسلام والفتح الاسلامي لإيران ويحرض المجتمع الفارسي في التمرد على الاسلام والانتقام من الغزاة العرب المسلمين والرجوع الى جذورهم المجوسية النقية وكذلك اِعادة مجد الأكاسرة والدولة الأخمينية.
وكذلك الحلقات السياسية والفكرية التي تأسست عند مطلع القرن العشرين مثل حلقة كاظم زاده ايرانشهر ومجلة ايرانشهر التي ضمت عنصريين من أمثال تقي زاده وبورداود و… حيث كانت تروج لأفكار فيخته الالماني وكانت دوغو بينو الفرنسي.. من رواد الفكر النازي والفاشي في أوروبا . و “حلقة انجمن ايران جوان” و “مجلة آينده” التي كان يتزعم تلك الحلقة محمود افشار المعروف بتوجهاته الشوفينية الفارسية عراب السياسات القومية العنصرية بعد تسلم رضا شاه مقاليد السلطة في ايران وكانت لتلك السياسات العنصرية بالغ الأثر على الشعوب الايرانية بشكل عام والشعب العربي الاحوازي بشكل الخاص .
اخذت هاتين الحلقتين تروج لفكرة (الشعب التاريخي) لهيغل وأصالة الشعب الفارسي وتاريخية هذا الشعب وهو الوحيد الذي يستحق الحياة والصيرورة وأن سائر الشعوب الايرانية هي شعوب غير أصلية وغير تاريخية ولابد من صهرها في بوتقة الثقافة الفارسية من خلال سياسات عنصرية ومنهجية كعملية الاستلاب الثقافي ،والتطهير العرقي والاثنوسايد والجنوسايد والتهجير القومي و … وتأسست على اثر ذلك مراكز دراسات وأبحاث صبت جام غضبها على الشعب العربي الاحوازي بالدرجة الأولي وسائر الشعوب الايرانية بالدرجة الثانية.
3. الثورة البلشفية و تداعياتها الجئوستراتيجية:
كان للثورة البلشفية وانهيار الدولة القيصرية بالغ الاثر على الوضع الجئوستراتيجي للدولة الايرانية سنة 1917 م. حيث سبق ذلك الانهيار المدوي اِكتشاف النفط في منطقة الاحواز مما أدى ألى تعزيز مكانة تلك المنطقة وكذلك الدولة الايرانية وأخذت تلوح بالافق صياغه جديد للعلاقة بين تلك الاِمارة و الدولة المركزية، هذه العلاقة التي كانت على مدى التاريخ بين مد وجزر حيث تكونت اولى تلك العلاقة الحديثة في معاهدة ارض روم الثانية بين الدولة القاجارية والدولة العثمانية.
وكذلك تم تعزيز تلك العلاقة في معاهدة سايس بيكو المشؤومة على شعوب الشرق الاوسط والشعوب العربية. ونظراً للمطامع الاستعمارية للدول العظمى أخذت تتكون نظرة جئوستراتيجية جديدة لتلك الدول خاصة مع انهيار الدولة العثمانية فتم التخطيط لخلق حزام حول الدولة البلشفية للتوسع جنوباً يشمل تركيا وايران حتى الوصول الى حقول النفط والمياه الدافئة.
فكان لذلك التوجه الجئوستراتيجي الجديد خلق دول مركزية متشابهة في ايران وتركيا تخدم مصالح الدول الاستعمارية على حساب الشعوب المكونة لتلك الدولتين المتشابهة بالنسق السياسي والتوجهات وهو نتاج استنساخ التجربة الياكوبنية للدولة الفرنسية. هذه التجربة التي تم تشويهها حيث تم الغاء مفهوم المشاركة السياسية والمواطنة الشاملة والديموقراطية من التجربة الفرنسية واستبدالها بالقهر والتهميش والتعسف تجاه الشعوب التي تعيش في هذه الدولتين.
4. التحالف التاريخي بين التجار الفرس وعلماء الشيعه والقوميين الفرس:
بعد تأسيس الدولة الصفوية التي وظفت المذهب الشيعي للاغراض السياسية، تكونت علاقة تاريخية بين التجار وعلماء الشيعة والدولة الايرانية. حيث كانت الدولة الايرانية تستمد وتكتسب شرعيتها من رجال الدين وانها الراعية للحوزة العلمية وبالمقابل كان لرجال الدين المكانة والحضوة لدى السياسيين الايرانيين. وكذلك أموال الخمس والزكاة التي تأتي من التجار والسوق، الدور الهام في اِستقلالية وتعزيز مكانة الحوزة ورجال الدين. استمرت هذه العلاقة الجدلية بين هذه الاطراف حتى مطلع القرن العشرين . ((فكان للتجار الفرس في تلك الفترة منحاً خطيراً، حيث ونظراً لمحدودية تجارتهم وجشعهم المتزايد، اخذوا بتوسيع تجارتهم بإتجاه المناطق القومية الاخرى وعلى حساب تجار وأسواق الشعوب الايرانية و وظفوا تلك العلاقة التاريخية، لصالح هذا المخطط. فأدعى البعض من رجال الدين بأن رضا شاه هو المبشر بقدوم الإمام المهدي، وان سياسته تصب في خدمة الاهداف العليا للدولة الشيعية. ويجب أن يكون مطلق اليدين في تنفيذ سياساته وتوجهاته الجديدة.
واما بالنسبة لعلاقة رجال الدين بالقوميين الفرس، فكانت بالبداية علاقة متوترة ولكن سرعان ماتغيرت تلك العلاقة وتحسنت واصبح هنالك تنسيق بين تلك الاطراف ولعب تجار الفرس دور هام في تلك الوساطة.
5. رجالات المجوس السياسيين والدينيين:
لبلاد فارس التاريخية وايران مكانة خاصة لدى المجوس بشكل عام والمجوس الايرانيين بشكل خاص، حيث يعتبرون انها الدولة التاريخية لهم والمكان الوحيد الذي استطاعوا انشاء دولتهم الدينية ومكانتها مثل مكانة فلسطين لدى اليهود. وكذلك يعتبرون أن الاسلام هو الحائل دون تحقيق طموحاتهم بعد اِنهيار الدولة الساسانية على يد العرب والمسلمين وبعد وهن و ضعف الدولة القاجارية وبالتحديد ايام حكومة ناصر الدين شاه ، أخذوا يخططون لخلق كيانهم التاريخي المزعوم وكذلك السعي من اجل اعادة وبعث الروح في الدولة الأخمينية والامبراطورية الساسانية المجوسيتين.
وكان هناك تنسيق بين المجوس الايرانيين ومؤسسات المجوس بالهند. ومن تلك المؤسسات التي لعبت دورا هاماً بالتطورات اللاحقة في ايران: “مؤسسة تحسين وضع مجوس ايران” [iii] ، “انجمن بهبودي حال زرتشتيان ايران” برئاسة سردينشاه بتيت بارونت، و” المؤسسة الخيرية للفرس بمبني(انجمن خيريه بارسيان ايران)” وصندوق ” The Persian Amelioration Fund [iv] “. ومن الشخصيات المجوسية الهندية الذين لعبوا دوراً هاماً في تلك التطورات: ممثل مجوس الهند في ايران والدبلوماسي في حكومة الهند الشرقية “مانكجي ليمجي هوشنك هاتريا” المعروف بمانكجي وكذلك اردشيرجي وارباب جيو وهم كذلك من العاملين في السلك الدبلوماسي لحكومة الهند الشرقية.
حيث كان لأردشير جي مكانة خاصة لدى الحكومة البريطانية وكذلك لدى السفير الفرنسي آنذاك الكنت دوغوبينو [v] . و من أهم الشخصيات المجوس الايرانيين: أرباب جمشيد وأرباب كيخسرو شاهرخ، حيث كان للأخير عدة كتب ومؤلفات منها “آئين مزديستي” و “فروغ مزديستي” حيث لعب دوراً هاماً في التطورات السياسية في بداية القرن العشرين.
كان لهؤلاء السياسيّون المجوس استراتيجية معينة في بعث المجوسية من رمادها، متأثرين من جلسات حكماء صهيون برئاسة “ثيودور هرتزل” في مدينة بازل السويسرية والتي أتت اكلها في “وعد بالفور” المشؤوم سنة 1917م والذي ادى الى خلق الكيان اليهودي. ومعظم هؤلاء كانوا يعملون بحكومة الهند الشرقية البريطانية ولهم علاقة وطيدة مع المستعمر البريطاني. فكانت اولى الخطوات هي تطميع ناصر الدين شاه من اجل اعطاء منطقة الاحواز لهؤلاء المجوس لغرض إنشاء كيانهم التاريخي المنشود وكان الاقتراح من قبل ميرزا آقاخان كرماني في رسالته المعروفة “برسالة عمران خوزستان” الى ناصر الدين شاه [vi] . و استمرت تلك المخططات بالتنسيق مع المستعمر البريطاني من أجل تحقيق ذلك الحلم التاريخي لهؤلاء المجوس.
اِجتمعت كل تلك العوامل التاريخية عند مطلع القرن العشرين و كانت النتائج كارثية على ايران كدولة وكذلك على الشعوب الايرانية كالاتراك الاذريين والأكراد والعرب والبلوش والتركمان و …. والنتيجة كانت: اِلغاء التجربة التي ولدت من رحم التطور التاريخي الموضوعي لمفهوم الدولة الايرانية واستبدالها بنسخة مشوهة للدولة الياكوبنية الفرنسية لضمان هيمنة القومية الفارسية من خلال البنى السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية. فأصبح مفهوم المواطنة الايرانية هو: المواطنة الفارسية ولغة الدولة: هي الفارسية والثقافة الرسمية : هي الثقافة الفارسية…. والخروج عن ذلك هو بمعنى التمرد وخرق للقانون وتهديد للأمن القومي الايراني ويعاقب الشخص والجماعة والشعب على ذلك، حيث اصبح من المسلمات وتم تحديد آليات وكذلك تدوين القوانين لضمان اِستمرار هذه الحالة. ووضعت الخطط والاستراتيجيات اللازمة من اجل خلق شعب ايراني موحد على مقياس ((القومية الفارسية))، منطلقين من النظرة “الإستشراقية” الأوروبية. حيث تعتبر الشعوب الايرانية أقليات لغوية، تغيرت لغتهم وثقافتهم تحت تأثير الجوار الجغرافي ـ وهم اي الشعوب الايرانية كالآذريين الاتراك و الاكراد والعرب وغيرهم ـ بالمراحل الابتدائية من سلم التطور الاجتماعي وعند استكمالهم لتلك المراحل التطورية سيصبحون ((فرس)) ويرجعون الى جذورهم الاثنية والتاريخية.
فاصبح هذا الخطاب من المسلمات والبديهيات التي لا يمكن المساس بها ويشكل البردايم الاساسي بالنسبة للسياسات القومية. وجرت عملية منهجية من أجل تشويه الحقائق التاريخية لتلك الشعوب من خلال الكتب الدراسية( بالنسبة للأتراك والعرب بتسميتهم الغزاة) والأوساط الأكاديمية وكذلك تكريس واقع جديد بالنسبة لتركيبة تلك الشعوب من خلال التهجير والتطهير العرقي والأثنوسايد والجنوسايد ومصادرة الأراضي وتهجير الشعوب الايرانية مثل الاكراد والاتراك والعرب والبلوش والتركمان الى دول الجوار. فكانت حصيلة تلك السياسات تهجير الملايين وكذلك مقتل وجرح مئات الألوف.
ونظرا لطبيعة مكونات ومرتكزات خطاب هذه الدولة المركزية العنصرية الجديدة والمعادية لكل ما هو عربي، أخذت تلك السياسات القومية الطابع الفاشي والعنصري تجاه مايمت للعروبة بصلة. فكان حصيلة تلك السياسات هي تهجير مئات الالاف من عرب الاحواز الى العراق ودول الجوار العربي وكذلك مصادرة الاراضي والحرمان السياسي والثقافي والاقتصادي.
بقلم: الفقيد محمد النواصري
الهوامش:
[i] دكتر علي الطائي، بحران هويت قومي در ايران، نشر شادكان