لم يخطئ بعض الصحافيين حين وصف الاتفاق الإيراني الغربي بأنه اتفاق القرن، ففي الحقيقة يمكن أن نعتبره مشابها للاتفاقات التي وقعت مطلع القرن العشرين بعد الحرب العالمية الأولى، وغيرت خريطة الشرق الأوسط، وأدت إلى تقاسم النفوذ بين إنجلترا وفرنسا، وتقسيم منطقة بلاد الشام والعراق في عصبة الأمم إلى سوريا ولبنان وفلسطين والأردن والعراق، وطرد الشريف حسين بن علي من الحجاز وإلحاقها بنجد.
وقد أبرز هذا الاتفاق جانبا من العلاقات الخفية والسرية التي كانت قائمة بين واشنطن وطهران إلى حيّز العلن بعد أكثر من ثلاثة عقود على ممارستها في الخفاء، فما هو الفهم الدقيق لخلفيات الثورة الإيرانية التي قامت عام 1979 في ضوء توقيع الاتفاق النووي المبدئي في منتصف نوفمبر/تشوين الثاني 2013 في جنيف؟ وما هو الدور المتوقع لإيران على ضوء النجاح في توقيع الاتفاق؟
بالنسبة للسؤال الأول فقد تأكد الآن أن أميركا عندما ساهمت في إزاحة الشاه، وسهلت مجيء الخميني إلى الحكم عام 1979، كانت تهدف إلى إحداث تغيير جذري في خريطة المنطقة التي كانت رسمتها إنجلترا وفرنسا بعد الحرب العالمية الأولى، وأقامت دول المنطقة على أساس قومي بدلا من الدول ذات الأساس الديني، فأقام أتاتورك دولة تركيا الحديثة في أنقرة على أساس قومي طوراني، وأقام الملك فيصل دولة العراق وسوريا على أساس قومي عربي، كما أقام سعد زغلول دولة مصر على أساس قومي مصري فرعوني إلخ.
ولما لم تفلح تلك المنهجية القومية في قيادة المنطقة إلى التغريب، وعاد الإسلام إلى الواجهة مرة أخرى بعنوان “الصحوة الإسلامية” في سبعينيات القرن الماضي، استحدثت أميركا أسلوبا جديدا في مواجهة “الصحوة الإسلامية” بأن تحيي “المكون الشيعي” لتصدمه بـ”المكون السني” من أجل زلزلة “الجسم السني” وخلخلته وتفتيته، وقد تم لها ذلك بإقامة “دولة الملالي” في إيران.
وأرجّح أن ذلك التوجه جاء بعد أن أيقنت دوائر البحث والتفكير في أميركا أن الأفكار والمبادئ التي تأتي من خارج “الإطار الديني” لن تفلح في قيادة أمتنا نحو التغريب كما حدث مع الأفكار القومية والاشتراكية والوجودية والليبرالية والمادية خلال ثلاثة أرباع القرن العشرين الأولى منذ الحرب العالمية الأولى إلى سبعينيات القرن الماضي، فاتجهت إلى إقامة التغيير من خلال “الإطار الديني”، فساعدت على ولادة “دولة الملالي” ذات “الطابع الشيعي” لتحدث صدمة في “الجسم السني” من الأمة.
ومن الجدير بالذكر أن “دولة الملالي” لقيت الترحيب من معظم الأوساط السنية وحركاتها وعلمائها، ولم تنتبه معظم الأوساط السنية إلى أن “دولة الملالي” جاءت لتدمير “الجسم السني” من الأمة، بل ذهب الكثير إلى التعاون مع “دولة الملالي”، ما عدا قلة من العلماء والمفكرين الذين انتبهوا إلى خطورة هذه الدولة، وتوجّسوا من أهدافها، وحذّروا من أخطارها.
ومن المعلوم أن التيار القومي بقيادة صدام حسين هو الذي تصدى لـ”دولة الملالي” وهو الذي أحس بخطرها على دولة العراق، لذلك تصدى لحزب الدعوة بقيادة محمد باقر الصدر الذي كان مرتبطا بصورة وثيقة بهذه الدولة من خلال مبدأ “ولاية الفقيه”، ويخدم فكرها بشكل حيوي وفعال، واعتقل مناصريه، وأعدم قائده محمد باقر الصدر عام 1980، ثم اشتبك مع إيران في حرب شاملة عام 1980، استمرت لمدة ثماني سنوات وقد دمرت -تلك الحرب- البلدين: العراق وإيران، واضطر صدام إلى أن يوقع هدنة في عام 1988.
من الواضح أن صدام كان قوميا عربيا، لذلك عندما واجه إيران واجهها من زاوية قومية، واعتبر خطورة “دولة الملالي” خطرا قوميا فارسيا، ولم يهتم بالجانب الديني في “دولة الملالي”.
لكن أطماع “دولة الملالي” أصبحت دينية وإن لم تغفل الجانب العرقي الفارسي، فقامت على نشر المذهب الشيعي في كل أنحاء الأرض، وتفعيل الطوائف الشيعية في كل الدول الإسلامية، ودعمها في البروز والتصادم الطائفي مع الآخرين، ودعوة “أهل السنة” إلى “التشيع” لأنه “المذهب الحق”، وتحويل الأمة من “أكثرية سنية” إلى “أكثرية شيعية”.
لم يهتم صدام بكل الأطروحات السابقة، ولم يعط قيمة لتقدم “المكوّن الشيعي” على “المكون العرقي الفارسي” في “دولة الملالي”، وهذا أمر طبيعي لأنه قومي عربي، بل اهتم بـ”فارسية دولة الملالي” و”عروبة دولة العراق”، وقولب الصراع بصراع “قومي عرقي” وأغفل كل الحقائق الأخرى التي قامت عليها “دولة الملالي” والأهداف التي رسمتها، وسعت إليها مستخدمة المال والإعلام والسياسة إلخ.
لقد حققت إيران جانبا من أهدافها في تحريك “المكوّن الشيعي” في بعض المناطق، وجعله يتقدم على “المكوّن السني” كما حدث في العراق ولبنان والبحرين، وجعلته منافسا له في أماكن أخرى كاليمن وسوريا، وسعت إلى تفعيله في أماكن ثالثة مثل مصر والمغرب العربي ليزاحم “المكوّن السني”.
لقد شكل قيام الثورة الإيرانية عام 1979 إيذانا بمرحلة جديدة في تكوين المنطقة وتغيير ملامحها من خلال التصادم بين “المكوّنين السني والشيعي”، كما كان توقيع الاتفاق بين إيران ومجموعة الدول 5+1 حول برنامج طهران النووي إيذانا بإطلاق يد إيران في المنطقة من أجل استكمال عملية التصادم بين “المكوّنين السني والشيعي” من أجل الوصول إلى زلزلة “الجسم السني” وخلخلته، وتحقيق “التمزق الطائفي” بين أجزاء البلد الواحد التي توجد فيها أكثرية سنية وأقلية شيعية، وإيجاد “حرائق طائفية” في الدول التي يوجد فيها سنة ولا يوجد فيها شيعة من خلال سعي إيران لنشر المذهب الشيعي في تلك الدول.
يلحظ المتابع للشأن الثقافي الغربي وللأوساط الثقافية الغربية -بشكل عام- انحيازا وتفضيلا لـ”المكوّن الشيعي” على “المكون السني” في المنظومة الثقافية للدين الإسلامي، ويأتي الانحياز والتفضيل في تلك الأوساط الثقافية من أن فيه مساحة أكبر للعرفان اللامعقول والتأويل، لذلك من الممكن أن يقبل معطيات الحضارة الغربية ويتأقلم معها، في حين أن “المكوّن السني” “دوغمائي” لأنه يقوم على “النصية”، لذلك من الصعب عليه قبول معطيات الحضارة الغربية، أو التأقلم معها.
وهم يعتبرون “المكوّن الشيعي” مقابل “البروتستانتية” في الديانة المسيحية، وهو العامل الذي قاد التغيير في أوروبا في القرون الوسطى نحو الحضارة الحديثة، وأزال الجمود الديني الذي كان مسيطرا على أوروبا في القرون الوسطى. في حين أن “المكوّن السني” شبيه بالأرثوذكسية والكاثوليكية في تلك الديانة.
وقد وصل هذا الانحياز إلى صانعي القرار السياسي في أميركا، وساهم في دفع قيام “دولة الملالي” عام 1979، ثم احتلال العراق من قبل أميركا عام 2003، وتسهيل جعل “دولة الملالي” ذات النفوذ الأوسع والأكبر في العراق وذلك بعد انسحاب أميركا من العراق عام 2011.
ولم يقف الأمر عند سياسيي أميركا في دعم “دولة الملالي” بالقرارات السياسية، بل تعداه إلى التصريحات السياسية، وفقد صرح ديك تشيني نائب رئيس الولايات المتحدة الأميركية في عهد رئاسة بوش الابن بأنه محب للشيعة، وهو تصريح مشابه لتصريح أوباما أيضا في المقابلة الشهيرة مع “بلومبرغ فيوز” التي أظهر فيها أنه معجب بإيران والشيعة.
وكما كان لدوائر القرار الأميركية -على الأرجح- نصيب في إقامة “دولة الملالي”، كذلك كان لتلك الدوائر -على الأرجح- نصيب في إقامة “القاعدة” وربطها بـ”المكوّن السني”، وذلك واضح في تسهيل وقوع التفجيرين مع أنه وصل إلى دوائر الاستخبارات عشرات الأدلة والمعلومات التي تشير إلى استهداف البرجين يوم 11 سبتمبر/أيول 2001.
وليس من شك أن ربط “القاعدة” بـ”المكون السني” يسيء إلى هذا المكوّن، ويبرز أنه “لا عقلاني” في حين أنه سيبرز “عقلانية” “المكون الشيعي”، مع أن هذه الصورة ليست صحيحة موضوعيا وعلميا وتاريخيا.
وأبرز ما يؤكد ذلك أن الباحثين في الموروث الثقافي الإسلامي يقولون إن أعظم كتاب مؤلف في التاريخ الإسلامي هو “درء تناقض العقل والنقل” ويسمى أيضا “موافقة صريح المعقول لصحيح المنقول” لابن تيمية، ومن المعلوم أن ابن تيمية من أعظم علماء “المكون السني” من جهة، وقد جاء هذا الكتاب ليبرز مكانة العقل عند أهل السنة من جهة ثانية.
ولا حاجة لنفصل في الرد على ربط “القاعدة” بـ”المكوّن السنّي”، فالقاعدة لا تستند على “المكون السنّي” بشكل كامل، بل هي أقرب إلى “المكوّن الخارجي” في المنظومة الثقافية الإسلامية، وهو ذو أدبيات مختلفة تماما مع “المكوّن السني”. وعلى ضوء المعطيات السابقة: فما هي صورة المنطقة بعد توقيع إيران الاتفاق النهائي مع الدول 5+1؟
إن أول معلم من معالم الصورة هو إنهاء إمكانية حصول إيران في المستقبل على قنبلة نووية تهدد إسرائيل، وذلك بسبب خضوع برامجها النووية للتفتيش الدولي من جهة، ولرقابة المؤسسات النووية عليها من جهة ثانية، وبذلك تبقى إسرائيل هي الدولة النووية الأولى في المنطقة، وبالتالي هي الأقوى، وهذا أول معلم وهدف تسعى إليه أميركا في المنطقة.
أما ثاني هذه المعالم فهو الاعتراف بنفوذ إيران في الشرق الأوسط، وهذا يعني إطلاق يدها في نشر “التشيع” من أجل زيادة نفوذها، وسيؤدي ذلك إلى التصادم مع “المكوّن السنّي” كما سيؤدي إلى مزيد من زلزلة “الجسم السني” وتفتيت “وحدة الأمة الثقافية”، وستستفيد إسرائيل من هذه الزلزلة لتجزئة المنطقة وزيادة تقسيمها.
الخلاصة: دفعت أميركا “المكوّن الشيعي” إلى الواجهة عندما سهلت قيام “دولة الملالي” عام 1979، وقصدت من ذلك إحداث تصادم بينه وبين “المكوّن السني” في الأمة، وذلك من أجل تفتيت “الجسم السني” ويأتي الاتفاق النووي بين إيران والدول 5+1، ليعطي “دولة الملالي” نفوذا أوسع، ودورا أكبر، ولتكون أقدر على خلخلة “الجسم السني” وزلزلته وتمزيقه.