عندما تسمح إيران لنفسها، إنْ مباشرة وإن من خلال أتْباعها في هذه المنطقة، بالتدخل السافر في الشؤون الداخلية لدول عربية بحجة وجود مقامات “شيعية” في هذه الدول، وعندما تكون هناك كل هذه النزعة الاستقلالية للأقليات القومية والدينية والمذهبية في هذه المنطقة كلها، فإن عليها أنْ تدرك أنها ليست بعيدة عن هذا الاستحقاق الذي بالتأكيد سيستدرج تدخلات خارجية، إقليمية ودولية، في شؤونها الداخلية هي أيضاً، والمثل يقول: “كما تدين تدان”.
قبل أيام، كان هناك لقاء في لندن لممثلي عدد من الأقليات القومية والمذهبية والدينية في إيران، وكانت شكوى هؤلاء جميعاً، وهذا صحيح ومعروف ولا يمكن إنكاره، أن هذه الأقليات تتعرض لاضطهادٍ أبشع من الاضطهاد الذي كانت تعرضت له خلال حكم الدولة الصفوية البغيض وخلال حكم الدولة “القاجارية”، وأنه لابد منْ أنْ يعرف العالم هذه الحقيقة، وأنْ يمدَّ يد المساعدة إلى هؤلاء الذين يعيشون أوضاعاً كتلك التي كانت تسود في عصور الظلام والاستبداد الديني الذي لا أبشع منه استبداداً.بعد انتصار الثورة الخمينية في فبراير 1979 مباشرة، حاول أكراد إيران، الذين مثلهم مثل غيرهم تفاءلوا بهذه الثورة، تحسينَ أوضاعهم في إطار الجمهورية الإسلامية الجديدة، لكن الردَّ على محاولاتهم هذه، التي كانت اتسمت بالسلمية وبالابتعاد عن العنف، كان بقمع دموي مرعب وبالإعدام شنقاً على أعمدة الكهرباء في الشوارع، وكان تبرير بعض “آيات الله” لكل تلك البشاعات التي ارتكبت وبخاصة في كرمنشاه أنَّ جمهوريتهم لكل المسلمين، وأنه لا مكان للنزعة القومية في هذه الدولة الجديدة، وبالطبع فإن هذا غير صحيح، وإلا لما نصَّ دستور هذه الجمهورية على أن دين الدولة هو الإسلام على المذهب الجعفري الإثني عشري.
كان أكراد إيران، الذين يقال إن عددهم تجاوز العشرة ملايين نسمة والذين يتمركزون أساساً في شمال غرب هذا البلد، قد ذاقوا طعم الاستقلال لأول مرة وآخر مرة عندما أنشأوا دولتهم الخاصة عام 1946 التي سميت “جمهورية مهاباد” التي احتل فيها الزعيم القومي الكردي التاريخي الملا مصطفى البارزاني موقع وزير الدفاع، والتي لم تعش إلا أحد عشر شهراً وانتهت نهاية مؤلمة في لعبة دولية قذرة مثل كل الألاعيب الدولية التي ابتليت بها هذه المنطقة الشرق أوسطية في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية.
هناك الآن بدايات محاولات جدية لحل المشكلة القومية لأكراد تركيا، الذين تشير بعض التقديرات إلى أن عددهم يقترب من العشرين مليون نسمة، فحكومة رجب طيب أردوغان أبدت تفهماً للمطالب الكردية وبادرت إلى إجراء مفاوضات مع عبدالله أوجلان زعيم حزب العمال الكردستاني التركي المعتقل في سجن جزيرة “أيمرالي” قبالة إسطنبول، أسفرت عن وقفٍ لإطلاق النار بين الجيش التركي وقوات هذا الحزب بعد حرب استنزاف كانت بدأت عام 1984 وأسفرت، حسب المصادر الرسمية، عن خمسة وأربعين ألف قتيل في صفوف القوات التركية.
وهذا يعني أن الدولة القومية للأكراد لم تعد مطلباً وهمياً وخيالياً لا يمكن تحقيقه، وأن على إيران أنْ تدرك أنَّ قمعها المستمر للنزعة الاستقلالية للأكراد “الإيرانيين” باتت نهايته قريبة، فهناك حتميات للتاريخ، ومن حتميات التاريخ أنه من غير الممكن أن يستمر حرمان هذه الأمة الكردية من أن تكون لها دولتها الموحدة المستقلة، وأن يبقى أبناؤها في أرض وطنهم القومي محرومين من تقرير مصيرهم مثلهم مثل كل أمم العالم، ومثل كل شعوب هذه المنطقة.والمؤكد أن ما ينطبق على هؤلاء ينطبق على عرب “عربستان”، التي ضمها الإيرانيون إلى دولتهم عام 1925 واستبدلوا اسمها هذا باسم مُختَرعٍ هو “خوزستان”، وينطبق أيضاً على “البلوش” الذين كانت لهم مملكة مستقلة قبل احتلال إيران للجزء الغربي من باكستان عام 1929، حيث تم الإعلان عن هذه الدولة الباكستانية القائمة الآن في عام 1948، وكل هذا، وهناك “التركمان” الذين هم امتداد للدولة “الآذارية” والذين هم أتراك قومياً وشيعة من الناحية المذهبية، ثم إن المعروف أنَّ هناك أقليات قومية صغيرة أخرى، إنْ لم تكن تستحق دولها المستقلة، فإنها تستحق على الأقل حكماً ذاتياً في إطار دولة الجمهورية الإسلامية القائمة الآن.