مهما كانت الظروف التي لعبت في إخراج أي دولة إلى حيز الوجود، فإن معظم الدول التي تأسست، نشأت في أول الأمر في منطقة صغيرة تعرف باسم منطقة النواة (Core Area).
وإذا راجعنا دراسة ويتليسي (Whittlesey)عن التطور التاريخي لنمو دولة فرنسا، وذلك باستعمال المنهج التاريخي، نراه يسير تبعاً للتطور التدريجي لمناطق النواة في فرنسا، منذ المراحل الأولى، وتكوين النواة بجزيرة فرنسا النهرية بالقرب من باريس، إلى أن وصلت إلى صورتها الحالية، ويربط ويتليسي بين الامتداد المساحي والتركيبة البشرية، وكيفية انتشار اللهجة الباريسية التي سادت في فرنسا.
وإذا نظرنا أيضاً إلى كيفية نشأة مناطق النواة في الوطن العربي، يتضح لنا كيفية نشأة الأمة العربية، وامتدادها المساحي في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، فالدولة العربية انطلقت من شبه الجزيرة العربية، وتحديداً من مدينة يثرب، لتكون حجر الأساس للدولة العربية الوليدة، والتي أطلق عليها لاحقاً مدينة النبي باسم مؤسس الدولة “محمد بن عبد الله عليه الصلاة والسلام”. وبفضل كثرة فتوحات الدولة العربية باتجاه البلاد المتحضرة، نُقِل مركز حكمها من قلب الصحراء، إلى المناطق الجديدة التي فتحت على أيدي جيوشها، ليكون مركز الحكم قريباً من فتوحاتهم، وبصورة تدريجية وعلى مدى أزمنة مختلفة، توسعت تلك الفتوحات نحو الشرق والغرب، لتصل إلى العراق والأحواز وبلاد فارس حتى حدود الصين شرقاً، ومصر وشمال إفريقيا حتى الأندلس غرباً. وأسست النواة في مختلف مناطق الوطن العربي، وبفضل هذه الفتوحات والهجرات التي قامت بها القبائل العربية على مدى التاريخ، رُسمت خريطة الوطن العربي الحالية.
إيران: سلالات الحكم المتعاقبة
بمقارنة ما سبق، فإننا إذا قمنا بدراسة نشأة الدولة الإيرانية وكيفية تكوينها، وذلك من خلال المنهج التاريخي، فإن الحالة الإيرانية تختلف تماماً عن الحالة الفرنسية والعربية. فمن خلال دراسة معمقة لكيفية نشأة إيران، نشاهد ظهور قوة في فلات إيران في القرن السادس قبل الميلاد، لتصبح إمبراطورية آنذاك، والتي عرفت بالأخمينيين، والجدير بالذكر أن فلات إيران كانت مأهولة بالسكان الأصليين “المتحضرين” قبل مجيء الأخمينيين. بينما يدعي المؤرخون الإيرانيون بأن الدولة الفارسية ولدت بظهور الأخمينيين، قبل قيام الفتوحات المقدونية بقيادة إسكندر المقدوني لتقضي على الأخمينيين وتُورث الحكم للسلالة السلجوقية لعدة قرون مقبلة. ظهرت بعدها في القرن الثالث قبل الميلاد، السلالة الساسانية التي حكمت بلاد فارس لحين ظهور الفتوحات العربية التي ضمت إيران لحوزتها.
وبعد سقوط الساسانيين، ظلت بلاد فارس خاضعة للأمويين، وثم العباسيين حتى القرن الثالث الهجري، ليبرز الغزنويون الأتراك كقوة جديدة “قبائل تركية من آسيا الوسطى”، وكانوا أول من هيمن على بلاد فارس بعد الفتح الإسلامي في القرن الثالث للهجرة ليحكموا بقوة، ومعهم بدأت هجرة القبائل التركية من آسيا الوسطى نحو فلات إيران، واستقرت في شمال ووسط إيران حتى أصبح سكان هذه الأقاليم من القبائل التركية بامتياز.
وجاء من بعدهم السلاجقة الأتراك ليمتد حكمهم في آسيا الوسطى وفلات إيران حتى عام 1194، حيث زادت الهجرة في عهدهم، حتى أصبح إقليم أذربيجان في شمال غربي إيران معقلاً للأتراك، ووصلت هذه الهجرات إلى منطقة الأناضول وجمهورية تركيا الحالية. وخلفهم الخوارزميون الأتراك، “وتسميتهم هذه كانت تيمناً بالمدينة التي انطلقوا منها وهي مدينة “خوارزم” في آسيا الوسطى، وقد حكموا نفس المساحة الجغرافية التي حكموها الغزنوييون والسلاجقة، وظلوا يحكمون بلاد فارس من دون منافس حتى جاءت الهجمة المغولية أوائل القرن السادس للهجرة، والتي كانت بقيادة جنكيز خان لتقتلعهم بشكل كامل.
والجدير بالاهتمام، أن الفرس ليس لديهم وجود حقيقي في إيران بعد الفتح الإسلامي، كي نقوم بدراسة موقعهم، ولا نرى أي ارتباط بين الذين كانوا يقطنون بلاد فارس قبل الإسلام والذين سكنوا البلاد بعد الفتح الإسلامي، والدليل على ذلك، أن أول من حكم البلاد بعد المغول كانوا الصفويين، وهم من أتراك أذربيجان، الذين أسسوا الدولة الصفوية بقيادة الفتى إسماعيل بن صفي الدين الأردبيلي، ليستمر حكم الصفويين لأكثر من قرنين. وبعدما ضعف الصفويون، جاء نادر شاه افشار التركي ليكون القوة المهيمنة لفترة وجيزة، ومن ثم جاءت من بعده العشائر القاجارية التركية القاطنة في شمال ووسط إيران لتفرض هيمنتها على معظم البلاد، وأنشؤوا مدينة طهران في وسط مناطقهم، وجعلوا منها عاصمة لحكومتهم.
إن الحقبة القاجارية، هي من أهم الحقب في تاريخ إيران الحديث؛ ففي هذه المرحلة بدأت المحاولات البريطانية لإنشاء وتأسيس الدولة الإيرانية الحديثة، لتكون البلد (الحائل) أو الحاجز بين مستعمراتها ومناطق نفوذها من جانب، وبين الإمبراطوية الروسية من جانب آخر.
إيران: الدولة الحائل
احتدم الصراع في القرنين التاسع عشر والعشرين بين بريطانيا العظمى والقوة الروسية القيصرية على المنطقة العربية وإيران خاصة، وكان الروس يصرون على الزحف نحو إيران، للوصول عبرها إلى الخليج العربي، وكانت هذه وصية القيصر بطرس الأكبر والذي قال “توغلوا حتى تبلغوا سواحل الخليج العربي، ومن ثم واصلوا السير نحو الهند لأن الهند عالم الكنوز والثروات”.
تعتبر الهند في تلك الحقبة من أهم المستعمرات البريطانية، فكانت بريطانيا تسعى إلى إحباط محاولات القوى المنافسة لها من الوصول إلى الهند بشتّى الطرق، وعلى إثر ذلك، بات القاجاريون من أهم حلفاء بريطانيا بفضل موقعهم الجغرافي. وازدادت أهمية البريطانيين بعد اكتشاف النفط في الخليج العربي والأحواز، وهذا بسبب موقع إيران الحساس والإستراتيجي. واستطاع البريطانيون من خلال دعم القاجاريين بالسلاح والتدريب في حروبهم ضد الروس، إيقاف التمدد الروسي نحو الجنوب وأجبروا الروس في أوائل قرن التاسع عشر في معاهدتي كلستان وتركمانشاي (ألغيت معاهدة تركمانشاي بعد الثورة البلشفية الروسية) بالإعتراف بالحدود الشمالية الغربية بين القاجاريين والروس، وجعلوا نهر “آراز” الخط الحدودي بينهما، وهنا بدأت الدولة القاجارية تأخذ مكانة الدولة الحائل بين الامبراطورية الروسية من جهة والمناطق الخاضعة للنفوذ البريطاني ومستعمراتها من جهة أخرى.
وعلى إثر المتغيرات العالمية والإقليمية، أصبح لإيران مكانة جيواستراتيجية في المنطقة والعالم، وأصبحت موضع اهتمام بريطانيا أكثر من ذي قبل، وقد صنفت لاحقاً من مناطق “الهارتلند” العالمية أي “مناطق قلب العالم” في نظرية عالم الجغرافيا البريطاني الشهير “هارلفلد ماكيندر” في عام 1904، لأنها كانت تقع بين أكبر مخازن النفط والغاز، وكانت تشرف على ساحل الخليج العربي من أقصى شرقه إلى أقصى غربه، ومن جهة أخرى كانت تقع في قلب العالم الإسلامي وتفصله إلى شطرين غربي وشرقي.
وبات موقع إيران الجغرافي مهم للغاية بالنسبة لبريطانيا؛ لصد التمدد الروسي نحو الخليج العربي والهند، فالحفاظ على إيران كحليف أصبح من أولويات السياسات البريطانية في المنطقة، ولهذه الأسباب ظلت بريطانيا تفكر ببناء دولة قوية وموحدة في إيران بدلاً من حكم القاجاريين وحكم الملوك الطائفي الهش، لتحافظ على وجودها في المنطقة لفترة أطول. ولذلك بدأت بإنشاء جيش قوي وحديث، وقامت بتسليح هذا الجيش الذي كان يعرف باسم “قزاق”، وجعلته من أكثر الجيوش تطوراً في المنطقة، كما عملت على تهيئة الظروف وتكوين الجماعات المناسبة لهذا المشروع الكبير، وهنا برزت بعض الشخصيات العسكرية القوية ومن ضمنها كان “رضا خان ميربنج”، والذي ينحدر من أسرة فارسية، ليغير اسمه لاحقاً إلى رضا خان بهلوي، وبعدما قام رضا خان بقمع الحركة الشيوعية الانفصالية الموالية لروسيا الشيوعية في إقليم جيلان (جمهورية گيلان) في شمال إيران عام 1921، حصل على دعم أكثر من البريطانيين ليكون هو من أداة تنفيذ المشروع البريطاني، وقائدا ً للدولة الوليدة.
قام رضا خان في عام 1924، بانقلاب ضد الحكومة القاجارية التركية بدعم بريطاني، وعمل على بسط سيطرته على كافة أنحاء البلد بقوة، وقمع بشراسة جميع الحكومات المحلية ليجعل من إيران دولة مركزية وقوية. ثم قام في عام 1925 باحتلال آخر الإمارات الأحوازية وهي إمارة المحمرة وأسر أميرها وضمها إلى دولته.
في ذات الوقت، عملت بريطانيا على ترسيم حدود إيران الشرقية مع الهند (باكستان حالياً) وأفغانستان، ليكتمل رسم حدودها السياسية الدولية، وأصبحت حدودها الجنوبية تمتد من شرق بحر عمان إلى أقصى غرب الخليج العربي، لتكون إيران الحصن البريطاني للخليج والهند لصد التمدد الروسي.
وعملت الدولة الوليدة، على بناء إيديولوجية جديدة بنسق منتظم، وإيجاد نظام من الأفكار يضمن ولاءً حقيقياً، وحصانة فكرية وثقافية للدولة. ففي عام 1936، قامت دولة فارس بتغيير اسمها بشكل رسمي، وأصبحت تعرف باسم إيران في المجاميع الدولية. وبهذا اكتمل مشروع الدولة الحائل، الذي عملت بريطانيا عليه منذ أواخر القرن التاسع عشر.
الخاتمة
استمر الشعور عند القادة والساسة والنخب الإيرانية منذ العهد البهلوي إلى يومنا هذا، بأن الكيان الإيراني قد خُلِق بطريقة مصطنعة وبفعل فاعل دولي. وقد ينهار ويتفكك هذا الكيان، إذا طالبت الشعوب غير الفارسية بتقرير مصيرها. لذلك رفض الساسة الفرس المتعاقبين على سدة الحكم في طهران في العقود الماضية تلبية المطالب والحقوق الشرعية والمحقة لهذه الشعوب.
وبفعل هذه العقلية الإقصائية لحكام إيران في التعامل مع الشعوب غير الفارسية، وسياسة التفريس، والعمل على محو الهويات غير الفارسية، كل هذه العوامل، غذت دوافع التحرر والتفكك عند الشعوب والأقليات العرقية. على الرغم من أن إيران الحالية تتشكل من عدة شعوب، “الأذربيجانيون الأتراك في شمال وشمال غربي البلاد، والأكراد في الغرب، والعرب في الجنوب والجنوب الغربي، والبلوش في جنوب شرق البلاد، والتركمان في شمال شرق إيران، وبعض الأقليات العرقية والدينية والمذهبية الأخرى، كالكيلين والتات واللاك واللور والبختياريين وأهل السنة الفرس في محافظات خراسان وكرمان وهرمزكان”. لكن الأنظمة الإيرانية المختلفة استمرت بسياساتها العنصرية، وأصبح احتمال تقسيم إيران من أقوى الاحتمالات في حال سقوط النظام في إيران، أو إذا حصل سيناريو تقسيمي في سورية أو العراق.
وبعد مرور أكثر من ثمانية عقود على تأسيس الدولة الإيرانية إلى يومنا هذا، ما تزال سياسات حكامها وتعاملهم مع القضايا المتعلقة بالشعوب، نفس السياسات إبان تأسيسها في مطلع القرن العشرين. بعدما عملت الحكومة البهلوية الأولى والثانية على طمس الهوية وتهجير وتشريد أبناء هذه الشعوب، وتغيير الديموغرافية في الأحواز وأذربيجان وبلوشستان والأقاليم الأخرى، فالجمهورية الإسلامية الإيرانية استمرت وبوتيرة أسرع وأكثر قساوة من النهج البهلوي العنصري الذي كان معتمدا ً تجاه هذه الشعوب. وتعتبر هذه الأعمال عملاً مضاداً لشعاراتها الثورية التي أطلقها القادة وعلى رأسهم “خميني” إبان الثورة، في العدالة والمساواة والحرية.
اليوم، ترى الشعوب غير الفارسية أن الحل الوحيد هو الخلاص من الأيادي الجاثمة على أقطارها المحتلة، ولن تتراجع هذه الشعوب حتى تصبح سيادتها بيدها، وبالتالي فإن على إيران قبول هذا المبدأ الأساسي وهو حق تقرير مصير الشعوب.
بقلم: يافا سعيد
*مركز المزماة للدراسات والبحوث
المصادر:
1: الجغرافيا السياسية لعالمنا المعاصر الجزء الأول- بيتر تبلور.
2: حكم الشيخ خزعل حاكم الأحواز –انعام مهدي علي السلمان.
3: تبين بنيادهاى علت وجودي ايران –يدلله كريمي.
4: ايران وايراني بودن در آستانه ى قرن بيست ويكم -مجتهد زاده.