عديد من دول العالم من تعطي أهمية كبرى لسياساتها الخارجية، وتضع ميزانيات كبيرة وتصرف أموالاً طائلة في ذلك. وجلّ هذه الدول إن لم نقل جميعها، دول ذات أجندة وأهداف خارجية. في المقابل، فإن هناك دولاً نكاد لا نسمع اسمها إلا نادراً؛ لأنها منشغلة في وضعها الداخلي وفي تقديم الخدمات لمواطنيها. ففي بعض الدول الأوربية مثلاً، ورغم الحرية الإعلامية، يصعب على مواطنيها أن يجدوا ما يكفيهم ويفيدهم من أخبار العالم، حيث التركيز فيها هو على أخبار الداخل، وإن كانت ليست مهمة كما نعتقد نحن. وهذا طبعاً لا يعني أن هذه الدول فاشلة، بل على العكس، فالبعض منها على رأس قائمة الدول الأكثر رخاء في العالم، والأكثر دعماً للقضايا الإنسانية، مثل الدول الإسكندنافية.
إن الحديث هنا ليس عن الدول العظمى التي تعطي أهمية كبرى لمواطنيها وتضع مصلحتهم في الأولوية، ثم تعمل على الصعيد الخارجي، مثل الولايات المتحدة وبريطانيا وبقية الدول المتطورة، بل عن دولة مثل إيران وبوضعها الداخلي الحالي المتردي. فإيران اليوم، ورغم وضعها الداخلي السيء، نراها تعمل وبكل الطرق، المشروعة وغير المشروعة على الصعيد الخارجي وتصرف المليارات. لكن لماذا كل هذا الاهتمام في توجهاتها الخارجية ولا نقول سياساتها الخارجية؟ لأن نشاطات إيران في الخارج ليست سياسية كلها، وتهمل حياة مواطنيها ومعيشتهم المتردية.
على سبيل المثال وليس الحصر، فإن انتخاب الرئيس الإيراني الجديد وما صاحبه من صخب إعلامي ودعائي، يفسر لنا الأمر بوضوح. فمن منا سمع هذه الأيام عن خطط روحاني لتحسين أوضاع المواطن الإيراني وحرياته، تلك التي كانت ضمن برنامجه الانتخابي. بل كل ما نراه اليوم هو التسويق للرئيس الجديد وتلميع صورته أمام العالم. والكل يعلم أن روحاني رجل أمن أكثر منه رجل دين أو سياسة. ورجل الأمن لا شأن له بالمرونة ولا بالسياسة المعتدلة التي يحاولون إلصاقها به. فهو ولفترات طويلة كان مندوب المرشد في المجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني، وهذا المجلس عمله أمني بامتياز. ومن يتابع تعيينات روحاني لمساعديه ومستشاريه سيكتشف أن هذا الرجل لا يستطيع الخروج من جلده الأمني رغم كل هذا التهويل الإعلامي.
فقد عيّن روحاني قبل يومين، علي يونسي -وزير سابق للاستخبارات ورئيس للقضاء العسكري، وهو مشبع حتى التخمة بالوسوسات الأمنية-، عينه مساعداً خاصاً في شؤون القوميات والأديان والمذاهب في إيران. والمثير ما جاء في خطاب التعيين، إذ نص خاطب روحاني الموجهة ليونسي: “وبالنظر إلى تخصصك وتجاربك القيمة، أعينك مساعداً خاصاً في شؤون القوميات والأقليات الدينية والمذهبية”. وفي نهاية خطاب التعيين طالبه بالاعتدال ومراعاة القانون، لأنه يعلم إن يونسي رجل أمن متشدد ويرى نفسه فوق القانون، وهذه صفات رجال الأمن أينما وُجدوا وأينما حلوا. ولو تابعنا سيرة حياة وزراء ومساعدي ومستشاري روحاني لوجدنا الكثير منهم ما يشبه علي يونسي في طريقة التفكير والخبرة. فمع ما يروج لروحاني من اعتدال مزعوم، كان يجب أن تكون الصبغة الأكاديمية والثقافية هي السمة البارزة لأغلب وزراء ومساعدي ومستشاري روحاني، كي يصدق العالم ما تقوله إيران عن وجهها الجديد.
ومن هذا يستطيع المرء فهم عقلية روحاني والنظام بأكمله، فرغم كل هذه الدعاية ومحاولات التلميع لشخصية روحاني، لا زالت إيران كما هي لا ترى الأمور سوى بعين أمنية. فروحاني وعلي يونسي والنظام بأكمله لا يستطيعون التعامل مع ملف القوميات والطوائف في إيران وهو ملف حساس وشائك رغم محاولة إيران التستر عليه خلال فترات طويلة، سوى عبر التعامل بآليات القمع والتعذيب والتنكيل كما كانوا يفعلون سابقاً. ولا يستطيعون التعامل مع الدول المجاورة وبالأخص العربية سوى بروح الاستعلاء والتكبر.
إن التغيير لا يحصل في إيران بهذه السرعة فالأمر متعلق بطريقة تفكير وإيديولوجيا متعالية وحب السيطرة على الأخرين. فالعقيدة ليست لباساً يستطيع المرء خلعه متى ما أراد. إذ إن بوادر التغيير في إيران لم تأت لحد الآن ولن تأتي في المستقبل المنظور.
إذن، فاعتدال روحاني الذي يروج له هذه الأيام، ليس سوى مجرد وهم يجب أّلا يصدق العالم به. فهذا الرجل “اللطيف المعتدل والمحب للسلام والحوار”، خبرته أمنية فقط وأغلب مساعديه ومستشاريه ووزرائه لهم سوابق عمل في الميدان الأمني. فإن لم يؤخذ الحذر منه فلننتظر ضحايا غدره بعد فترة وجيزة.