جاء خبر من الأحواز قبل أيام مفاده أن الآلاف من القوات الخاصة في تحشيد لم يسبق له مثيل خلال الأعوام القليلة الماضية نزلوا الأحواز، قرأ حينها البعض أن هذا الحشد الكبير جاء لدعم القوات الفارسية المستقرة هناك في حالة نشوب أي انتفاضة أو حدث آخر يخل بأمن الدولة الفارسية. في قراءة أخرى لهذا الحدث، ومن خلال هذا المقال، سأتطرق لبعض الأمور على الأبعاد الأمنية والسياسية التي نستطيع أن نسميها كأهم أسباب “العسكرة” الفارسية في الأحواز. تمهيداً؛ في البعد النظري ترتبط “السياسة العسكرية” بالفكر السياسي والعسكري معاً، ولها ارتباط أيضاً بمدى تغير العلاقات الدولية وما ينتج عنها من صراعات على مختلف نطاقات المجتمع الدولي. فمعنى ذلك أن مفهوم السياسة العسكرية مفهوم ثنائي التركيب، ومعاصر التكوين، فلو تم البحث في العلوم السياسية لم يستدل على مصطلح يظهر مفهوم السياسة العسكرية مع أنه مفهوم يرتبط أساساً ببعض النظم السياسية الموجودة في المجتمع الدولي المقترنة بالقوة العسكرية.
العلوم السياسية لم تضع الأسس النظرية لدراسة علم مستقل يطلق عليه علم السياسة العسكرية، لأن السياسة العسكرية ترتبط بوجود القوة العسكرية، وليس للقوة العسكرية طابع الثبات الذي يتميز به باقي موضوعات علم السياسة كالدستور والحكومة والتنشئة السياسية والمشاركة السياسية، وغيرها من الموضوعات التي يركز عليها علم السياسة؛ ومعنى ذلك أن القوة العسكرية والعلاقات الدولية لا يتمتعان بطابع الثبات فهم دائماً عرضة للتغير المفاجئ تبعاً للتغير الدائم في الوسائل العسكرية والتكتيكية خوفاً من الخلل الذي يمكن أن يحدث في العلاقات الدولية بين أعضاء المجتمع الدولي، والذي يؤدي بدوره إلى التوترات والصراعات الدولية. فالسياسة العسكرية ترتبط بالنطاقات الوطنية والإقليمية والعالمية لأن معاييرها تنبع من اندماج الفكر السياسي مع الفكر العسكري، وأيضاً نتيجة اندماج الاستراتيجيات السياسية المتخصصة مع الاستراتيجية العسكرية والتي ينتج عنها الاستراتيجية القومية.
من هنا نقول إنه تعيش أغلب الشعوب الرازحة تحت نير الاحتلال مفهوم العسكرة بثقافتها وسلوكياتها وأساليب تفكيرها منذ أن دخل الاحتلال أراضيها نتيجة تدوين الاستراتيجية القومية لدى المحتل ومن ثم تنفيذها على الأراضي المحتلة. والعسكرة بمفهومها المحض؛ استراتيجية تعبوية وتدابير احترازية يلجأ لها الاحتلال في حالة الطوارئ أو اختلال في الوضع الأمني الداخلي، إلا أنها في الأحواز تبقى حالة ثابتة نتيجة مخاوف الاحتلال من نشوء جيل جديد للتنظيمات الأحوازية. لا نقصد بالعسكرة هو أن يكون الجميع في حالة خضوع للآلة العسكرية ومنظومتها الاستخبارية؛ بل إن العسكرة قد تنتج بشيء تتابعي ناتج من خضوع الدولة المحتلة بسائر مؤسساتها لقرار المنظومة العسكرية الحاكمة تخطيطاً وتنفيذاً، وهذا ما يحدث في الأحواز؛ حيث يعيش هذا البلد العربي المحتل حالة من التسلط المقيت للأجهزة الأمنية الفارسية وتدخلها السافر في جميع نواحي الحياة، بحيث إن المواطن الأحوازي البسيط لا يمكن تعيينه أو توظيفه في دائرة ما إلا بموافقة أجهزة الأمن والاستخبارت وكذا الحال حتى في التنافس على مقعد دراسي وغير ذلك. أصبح الفرد في الأحواز يعيش حياته تحت مجهر الأجهزة الأمنية والاستخبارية بعنوانها القمعي، حيث إن الأجهزة الأمنية في إيران تعتبر صاحبة القرار النهائي الذي تبني عليه الحكومة الفارسية سياساتها، ولا عجب في ذلك فالجميع من رؤساء الدوائر الحكومية للدولة الفارسية في الأحواز هم جزء طبيعي من المنظومة الأمنية كما يحملون رتباً معينة فيها، بل إن الكثير منهم جاءت بهم تلك المنظومة الفارسية المرعبة إلى سدة الرئاسة في الدوائر المختلفة في الأحواز.
لقد شكلت العسكرة في الأحواز حالة من الكبت النفسي لأفراد الشعب وطوقته بأسوار متعددة؛ أولها التنصت السري والمتابعة “الظلية” وآخرها الاعتقالات التعسفية والإعدامات المتواصلة لتكون بذلك حالة معاشة يومياً. سلوك الجانب الأمني الفارسي المشدد ومكافحته لكل ماهو عربي وتغييب الواقع المدني الأحوازي ظل في حالة بعيدة عن الأعين ولتسليط الضوء بصورة مختصرة على أسباب العسكرة الفارسية في الأحواز يمكن استخلاص ما يلي؛ من أهم الأسباب في عسكرة الأحواز ما هي إلا حالة “الاحتلال” بأم عينها؛ حيث إن كان المجتمع الأحوازي وأرض الأحواز جزءاً من الكيان الفارسي لم تصل حدة الموضوع والعسكرة إلى ما نحن فيه الآن ويمكن للقارئ متابعة ما يحدث في الأقاليم الإيرانية ومقارنتها بما يحدث في الأحواز للتأكيد على ما قلته هنا. السبب الآخر؛ تعيش الدولة الفارسية وتنجز أحلامها في الشرق الأوسط والعالم عبر الموارد المادية للنفط والغاز والمنتجات الأخرى “التي يقدرها الاقتصاديون بما يقارب الـ 80 بالمائة من الدخل السنوي للدولة الفارسية والتي يتأمن هذا الرقم الكبير من أرض الأحواز المحتلة”.
ومن الأساب الأخرى يمكن أن نذكر؛ 1- التاريخ الطويل من استخدام الآلة العسكرية في التوسع الفارسي والإرهاب والاغتيالات وغير ذلك من تصفيات جسدية وشخصية. 2- السياسات المبنية على الأسس العنصرية والقمعية التي تستهدف كل ماهو عربي من قبل الأنظمة المتعاقبة على سدة الحكم في التاريخ الحديث الإيراني والتي تجعل هدفها الأول محاربة أي ظاهرة عربية. 3- الخطاب الفارسي المتشدد والمعزز بالقوة المفرطة المستخدم في إدارة أمور الدولة الفارسية في الأحواز ونذكر منها أن معظم الموظفين الكبار في الدوائر الحكومية للدولة الفارسية هم جزء من الأجهزة الأمنية. 4- الحرب الإيرانية – العراقية التي جاءت بشعارات رنانة من قبل الطرف العراقي منها تحرير الأحواز على أيدي قوات الجيش العراقي، حيث ولدت هذا الحرب أكبر استراتيجيات أمنية وأكثرها خطورة تم تنفيذها على أرض الأحواز من قبل الدولة الفارسية. 5- تقديم القوى العسكرية والأمنية الفارسية المتواجدة على أرض الأحواز من قبل السلطات الإيرانية ووضعها على امتداد عشرات السنين بالمرتبة الأولى قبال سائر جوانب وقطاعات الدولة الفارسية برمتها. 6- الحرية المطلقة المهداة من قبل ساسة النظام الإيراني للقوى الأمنية الفارسية في الأحواز وعدم الجدية في معاقبة ومحاسبة القيادات الأمنية في حال تجاوزها على المواطنين العرب حتى لو خرقت تلك القيادات القوانين والأنظمة المزعومة. 7- منح الرتب الفخرية لأشخاص تجيد وتطور كيفية القمع بحق الموطن الأحوازي. 8- تدني ثقافة المنظومة الأمنية الفارسية في الأحواز بحيث يفتقر أغلب منتسبيها إلى الثقافة العامة، حيث عدم اهتمام السلطات الإيرانية بمعايير حقوق الإنسان يجعل من منتسبي الأمن في الأحواز عدداً من سفاكي الدماء. 9- نشر المواقع العسكرية وثكنات الجيش في مراكز المدن أو بالقرب منها، والاحتكاك اليومي لتلك القوات بحياة المواطن بحيث أصبحت جزءاً من التركيبة الاجتماعية ومشهداً مألوفاً في جميع المدن الأحوازية. 10- عدم اعتراف الدولة الفارسية باحتلال الأحواز يجعل المواطن الفارسي المنتمي للأجهزة الأمنية أكثر تشدداً وهو بموقع (الدفاع عن أرضه وبلده) أمام الأحوازيين. يبدو أن ما يحدث في الأحواز من حراك أمني وعسكري واسع النطاق يهدف لتسريع عملية التفريس وأيرنة الأحواز، ومن جهة أخرى أن العسكرة رغم أهميتها للمحتل الا أنها تبقى ضيفاً غير مرحب به على جسد المجتمع الأحوازي ويرغب برحيلها بأسرع الأوقات. في مقال آخر سوف نتحدث عن نتائج وأساليب كسر هيبة العسكرة الفارسية.