بعد الاتفاق الذي وقعته إيران مع مجموعة 5+1 حول مشروعها النووي، يبدو أن إيران تعرف تماماً أين هي المعوقات التي يمكن أن تصبح فيما بعد الخطر الحقيقي على وصول هذا الاتفاق إلى النهاية المطلوبة لطهران. لهذا يقوم وزير خارجية إيران محمد جواد ظريف بزيارة لعدة دول خليجية هذه الأيام. لكن كان واجباً على طهران بدل الجري المستمر والسباق مع الزمن من أجل إزالة العراقيل وتبديد مخاوف جيرانها، كان واجباً عليها أن تكون قد تفادت كل هذه الأمور قبل الدخول في المفاوضات، أو حتى قبل التفكير في إنشاء مشروعها النووي. إن المشاريع الحساسة والاستراتيجية من هذا النوع التي من شأنها زعزعة الاستقرار العالمي تحتاج إلى استقرار وزرع الثقة بين الدولة المعنية ومحيطها.
وانجاز مهمة من هذا النوع لا يتطلب فقط تصريحات وزيارات دبلوماسية مؤقتة فقط، بل بحاجة إلى الكثير من السنين لزرع الثقة وبناء ثقافة السلام واحترام الآخرين ومراعاة حسن الجوار فعلاً وليس قولاً. وهذا ليس فقط ما لم تفعله إيران تجاه جيرانها العرب بل عملت طيلة أكثر من ثلاثين عاماً على فعل نقيضه تماماً من خلال التهديدات المستمرة ومحاولات تصدير ثورتها وتداخلاتها العلنية في شؤون الدول الخليجية، مما صعب المهمة أمامها اليوم. وهي بحاجة إلى تأييد كافة جيرانها لمشروعها النووي كي تستطيع الوصول به إلى بر الأمان. خاصة بعد أن تم كشفها وفي عدة مرات أنها قد أنشأت مواقع سرية للمشروع النووي مما عرقل كل محاولاتها في إقناع الأسرة الدولية بسلمية مشروعها.
بناء الثقة
إن الثقة ترتبط مباشرة بتصورات البشر وفهم بعضهم بعضاً، وهذا الفهم لا تستطيع إيران خلقه بزيارة واحدة أو زيارتين أو حتى ألف زيارة، إذا كانت في فترة زمنية قصيرة تقدر بستة أشهر، التي ذكرت في الاتفاق النووي الإيراني مع الغرب. فالثقة ليس لقاحاً تستطيع إيران حقنه لجيرانها العرب عبر وزير خارجيتها أو رئيسها الجديد، لكي يتعافوا من الفوبيا الإيرانية أو الفوبيا الشيعية كما صرح مؤخراً إمام جمعة مدينة مشهد الإيرانية. ومن يتابع الأدبيات السياسية الإيرانية في العقود الثلاثة الأخيرة على أقل تقدير يرى أن المسؤولين الإيرانيين لا يمتلكون رؤية سليمة واستراتيجية ذكية فيما يتعلق بمشروعهم النووي. فالدولة التي تطمح إلى امتلاك مشروع نووي سلمي أو سلاح نووي مثلما تريد إيران، تحتاج ليس فقط إلى استقرار داخلي بل إلى استقرار وهدوء تامين في علاقاتها مع جيرانها كي لا تواجه العراقيل مستقبلاً. وهذا الاستقرار والهدوء لا تملكهما إيران، لا على الصعيد الداخلي ولا على الصعيد الخارجي.
وما يريد إيصاله ظريف من رسائل سلام وتطمين لدول الخليج العربي، هو كمحاولة إنقاذ الميت سريرياً. قد يستطيع الأطباء ضخ الأكسجين إلى رئتيه عبر الأجهزة، لكن دون فائدة حيث لن يستطيع العودة مجدداً للحياة الفعلية، وما إن تسحب منه أجهزة التنفس الاصطناعية يفارق الحياة فوراً. إن الثقة تزعزعت منذ أن قرر خميني المرشد السابق ومعه رجال الحوزة مجتمعين إعلان العداء للدول العربية المجاورة بحجة أنهم كفار ومشركين والجهاد ضدهم واجب شرعي. إضافة إلى التصريحات المتواترة للمسؤولين الإيرانيين وادعاءاتهم في السيادة على البحرين والكويت واحتلالهم لجزر الإمارات العربية المتحدة والنظرة الفوقية المتأزمة التي عملت عليها الماكينة الإعلامية الإيرانية طيلة أكثر من ثلاثة عقود وهو عمر النظام الحالي.
الحصول على هدنة
لا تزال تعتقد إيران، وهو ما يذكر يومياً في الصحف التابعة للنظام الإيراني أن حكام الخليج يسيرون على النهج الأمريكي، وهم حلفاء الشيطان الأكبر. لذا كي تستطيع المضي قدماً في مشاريعها، كان لزاماً عليها التعامل مع حكام الخليج كأعداء فعليين لها. لذا تارة تجدها تتعاطى مع دول الخليج بالتهديد والوعيد وتارة تدخل معهم في هدنة، كما هو مرجو من زيارة ظريف هذه إلى دول الخليج العربي. إذ صلح الإمام حسن بن علي مع معاوية لم يسقط إلا من القليل مما يكتب هذه الأيام في الصحافة الإيرانية. وباعتبار أنها جلست وتفاوضت مع الشيطان الأكبر فما هو المانع من أن تتفاوض مع حلفاء هذا الشيطان طالما الموضوع هدنة مؤقتة وليس صلحاً دائماً وبناء صفحة جديدة.
رسالة للعالم
تعرف إيران أن العالم جميعا متخوف من مشروعها النووي بغض النظر عن بعد ذلك العالم جغرافياً. فمصالح الكثير من الأعضاء الفاعلين في المجتمع الدولي هي في الجزيرة العربية. والعالم بأسره يعلم أن أي زعزعة للاستقرار في هذه المنطقة سيضر الجميع وسيكلف اقتصاديات العالم الخسائر الفادحة. لهذا لن يسمحوا لا لإيران ولا لغيرها في تهديد هذا المصدر الاستراتيجي للطاقة إلا في حالة واحدة، وهي انتهاء الاعتماد على البترول كمصدر للطاقة واستخدام مصادر طاقة أخرى لا تبدو متوفرة تجارياً حتى في المستقبل المنظور على أقل تقدير. وفهم إيران لهذه الحقيقة جعلها تبادر في إرسال رسائل السلام إلى دول الخليج العربي، ولم تبدأ مثلاً بزيارة الدول الأوروبية المشاركة مباشرة في التفاوض معها.
رسالة مبطنة للسعودية
تتهم إيران صراحة المملكة العربية السعودية في محاولة إفساد ما تخطط له سواء في نشاطها العسكري داخل الأراضي السورية أو فيما يخص اتفاقها الأخير مع الغرب حول برنامجها النووي. لكن لماذا لم يبدأ ظريف بزيارة الرياض لإعلان حسن النوايا وفتح صفحة جديدة باعتبارها الدولة الأكبر والأكثر تأثيراً في سياسات منطقة الشرق الأوسط باعتراف الإيرانيين أنفسهم، إذا كانت إيران تريد العدول عن نهجها القديم. يبدو أن زيارة ظريف لسلطنة عمان والكويت وقطر وإطلاق التصريحات من هناك ودعوة السعوديين إلى انتهاج طريق السلام كما جاء في أحد تصريحاته، فيه رسالة مبطنة للسعوديين مفادها أن إيران تستطيع وضع السعوديين في عزلة مع محيطها الخليجي إذا حاولت عرقلة مساعي إيران في التوصل إلى اتفاق حول برنامجها النووي. ورسالة إلى العالم في نفس التوقيت مفادها أن أغلب دول الخليج العربي قد تم تطمينها وتبديد مخاوفها.
وتبدو إيران مخطئة أيضاً هذه المرة، فالهدنة لا تستطيع بناء الثقة مجدداً، خاصة إذا كانت هذه الثقة تزعزعت بأفعال وتصريحات وتهديدات كلفت إيران نفسها والدول الخليجية مليارات الدولارات. كما أنه لا يبدو على إيران هذه المرة أيضاً ملامح التغيير، فحاولت دخول البيت الخليجي من الشباك وليس من الباب.
فماذا لو كانت إيران ومنذ تغيير النظام فيها عام 1979 قد نحت نحو السلام والاندماج مع محيطها العربي واحترمت مبادئ حسن الجوار ونظرت إلى الدول العربية في جوارها كدول مسلمة آمنة مستقلة. خاصة ونحن نعلم أن كافة الدول العربية وبالأخص الخليجية استقبلت الثورة في إيران بإيجابية وتعاطت معها كما يجب، باعتبار أن الشاه ملك إيران كان قبل سقوطه مصدر تهديد وخطر على أمن واستقرار الخليج العربي، وحليف بالعلن لإسرائيل في حروبها ضد العرب. وماذا لو حاولت إيران صادقة بناء علاقات متكافئة مع دول الجوار في محيطها. وماذا لو نأت بنفسها عن أي أزمة قد حصلت في هذا البلد العربي أو ذاك.
حينها لوجدت إيران الآن هي الشقيقة الكبرى لدول الخليج العربي. وقد وجدت الدول الخليجية من المدافعين عن مشروعها النووي الطموح باعتباره حينئذ ليس مشروعها فقط، بل مشروعاً للدول الإسلامية كافة. لكن أيديولوجية النظام الإيراني المتطرفة جعلته يستخف بمن حوله من الدول المجاورة باعتبارها دول صغيرة في عددها،ويستطيع ابتلاعها متى ما قرر المرشد القائد. لهذا وضعت إيران نفسها في مأزق لا تستطيع الخروج منه إلا برضا وموافقة جميع من يجاورها وإن كان من الدول الصغيرة.
والمخرج الصحيح من المأزق الإيراني وهذه العزلة الخانقة هو أن توقف إيران جميع نشاطاتها المثيرة للريبة وليس فقط مشروعها النووي. وتحاول بناء الثقة المفقودة من جديد وبفترة زمنية قد تكون أكثر من الفترة التي استطاعت من خلالها تهديم هذه الثقة. وذلك عبر خطاب سياسي جديد وبنظرة أكثر واقعية للأمور، إذ لا تستطيع أي دولة مهما كبرت الدول الأخرى عدداً وعدة أن تبتلع تلك الدول أو أن تتدخل في شؤونها كما تفعل إيران تجاه الدول الخليجية عامة. والبداية تكون في التعاطي بإيجابية مع الإمارات العربية المتحدة التي تطالب بجزرها المحتلة من قبل إيران، وقد أعلنت عن استعدادها منذ سنين للذهاب إلى محكمة لاهاي الدولية للفصل في نزاعها مع إيران.
لكن تعنت إيران وإصرارها على مواصلة نفس النهج الذي ثبت فشله حال دون الوصول إلى مخرج حقيقي وسليم لهذا النزاع، الذي إذا كان اليوم يبدو أنه لا يزعج إيران لكنه في المستقبل قد يكون القشة التي تقصم ظهر البعير، والشرارة التي تحوّل كل هذه الضغائن التي زرعتها إيران ولا تحاول محوها من ذاكرة شعوب هذه المنطقة إلى صدام فعلي، قد تكون إيران غير قادرة على تحمله. وحينها لن نتكلم عن مشروع نووي مجمد بحاجة إلى موافقة دول الجوار كي يفعّل من جديد، بل نتكلم عن زعزعة استقرار اقتصاد العالم بأسره وتكون إيران أكبر المتضررين والخاسرين منه.