تكتفي السياسة الخارجية الإيرانية بظواهر الدبلوماسية خلافاً لفحواها، حيث لم يعتمد السلك الدبلوماسي الإيراني يوماً ما على نظرية واضحة المعالم من النظريات المطروحة في علم العلاقات الدولية، بتبنيه مهمته وذلك على العكس لما يراه المرء في معظم دول العالم حيث هنالك عدة مناهج تتبناها الشؤون الدبلوماسية وذلك حتى في البلدان النامية من أجل التعريف بمصالحها على كافة الأصعدة والدفاع عن حقوق مواطنيها المغتربين.
بلمحة تاريخية نشاهد أن الدولة الفارسية منذ عهد الإخمينيين وتأسيس أول إمبراطورية لهم في العام”539 ق م” نتيجة تواطؤ الفرس وبني إسرائيل ضد حكومة بابل (العراق) الذي أصبح مكشوفاً في التاريخ، حيث تم إنشاء هذه الإمبراطورية على أنقاض حضارات العيلام (الأحواز) وبابل (العراق) وسيلك (مقاطعة أصفهان) ومارليك (جنوب بحر قزوين) والمدينة المحروقة (بشمال بلوشستان) حتى عهد الاشكانيين وصولاً إلى الساسانيين حيث هزمت إمبراطورية الأكاسرة على يد المسلمين.
ولا ننسى هجوم المغول على العراق في فبراير 1258م وذلك بتواطؤ من الفرس وبتدبير الملا نصير الدين الطوسي، وبعد أن استسلم الخليفة العباسي المستعصم الذي لقي حتفه بعد خمسة أيام من دخول المغول بغداد، ويعيد التأريخ نفسه مرة أخرى في القرن السادس عشر حيث حاول الصفويون احتلال مكة المكرمة بتواطؤ مع البرتغاليين، وأخيراً احتلال العراق في سنة 2003 بالتواطؤ الفارسي – الإسرائيلي – الغربي، حتى تصل عدد الاحتلالات الفارسية للعراق ثلاث مرات، ومحاولات لاحتلال لعدة دول عربية ناهيك عن احتلال الأحواز في العشرين من نيسان سنة ,1925 كي نتذكر نحن العرب الخطر الفارسي على منطقتنا وتدخلاته اللامشروعة في شؤوننا الداخلية والتوسع على حساب الجغرافيا السياسية العربية، نتيجة غياب الدور العربي الناتج من احتلال بلدان عربية كالأحواز ومن ثم العراق وصعود نجم إيران في المنطقة ومد سيطرتها وهيمنتها على الدول العربية خاصة في منطقة الخليج العربي.
يبدو ما هو واضح في السياسة الخارجية الإيرانية التهجمية انعكاساً لشعور العقلية الفارسية بالعزلة الثقافية خاصة فيما يتعلق ببعد انتشار اللغة الفارسية والمذهب الرسمي حيث ترتسم للسياسيين الفرس خطورة غياب البعد الاستراتيجي لدولتهم نتيجة محدودية اللغة الفارسية والمذهب الشيعي الاثنا عشري (حتى في داخل البلاد)، خلافاً لجيرانهم من العرب والأتراك والآخرين الذين يتمتعون كل على حده ببعد استراتيجي وقومي وثقافي لا مثيل له، حيث للعرب إضافة للبعد الجغرافي الممتد من المحيط إلى الخليج هناك تربطهم صلة من حيث العرق واللغة مع العرب الأحوازيين في داخل الحدود الإيرانية، وهكذا الأتراك تربطهم نفس الصلة بأتراك إيران الذي يقدر عددهم قرابة الـ28 مليون نسمة منتشرين في أكثر من خمس محافظات إيرانية، ناهيك عن البعد الاستراتيجي لدولة تركيا التي يمتد من الأناضول إلى القوقاز وصولاً لمقاطعة سين كيانك حيث موطن الأتراك الأيغور في شمال غرب الصين وصلتهم بالدول المحيطة بهم من حيث المذهب السني.
نشاهد هنا أن الدولة الفارسية تفتقر للكثير من مكونات البعد الاستراتيجي المطلوب، وتقع إيران في موقع جغرافي في منطقة الشرق الأوسط الساخنة على مد العصور حيث تاريخها الحافل بالصدامات.
عملت الدولة الفارسية الحديثة منذ تأسيسها ولاتزال على نشر اللغة الفارسية والمذهب الشيعي من أجل إيجاد موطئ قدم في أي مكان في العالم خاصة في منطقة الخليج العربي وذلك عبر الهجرة المنتظمة للعمالة الإيرانية ودعم السلطة للمغتربين الفرس المتمثل ببناء مدارس ومؤسسات بمسميات مختلفة وتشييد المزارات في العراق منذ القرن الماضي، حيث جاء الدعم المادي من قبل ”تاج الملوك” والدة محمد رضا بهلوي، شاه إيران وبتنفيذ ”عباسعلي خلعتبري” وزير خارجية الدولة الفارسية آنذاك ومن بعده من مسك بقيادة الشؤون الخارجية لطهران.
بإطلالة سريعة على تدخل الدولة الفارسية في القضايا العربية فإنه يتبين للمرء وجود تطابق كامل في المواقف فيما قبل وما بعد ثورة ,1979 بداية من استمرار احتلال الأحواز والجزر الإماراتية الثلاث، والمطالبة المتكررة يومياً على لسان ساسة إيران بضم البحرين، والرغبة الواضحة والمعلنة في الهيمنة على المنطقة العربية التي تأتي بالتمهيد للهيمنة من حيث المنطلق الفكري المتمثل بالتشيع وتعلم اللغة الفارسية.
بالتالي لا أرى في العقلية الفارسية أي فرق بين مفهومي ”شاهنشاه” و”ولاية الفقيه” حيث يعني الأولى ”ملك الملوك” والثاني ”الولاية المطلقة” على المسلمين جميعاً، ويأتي مفهوم ملك الملوك منذ زمن الاخمينيين وما هو إلا ترجمة وانعكاس واضح لمكونات العقل الفارسي بحب السيطرة على العالم، وتم تطبيق مرتكزات هذه النوع من الفكر التوسعي في عهد السلالة الإخمينية وما خلفها من ملوك الفرس باحتلالهم لدول راحت ضحيتها شعوب وحضارات وجغرافيا سياسية بالغة الأهمية والتي لاتزال إيران تهيمن على أقسام كبيرة منها حتى يومنا هذا.
وهكذا مفهوم ولي الفقيه حيث الذين صنعوا هذا المفهوم أيضاً حب السيطرة على العالم يخيم على عقلهم وباختلاف بسيط مع مفهوم ملك الملوك حيث هؤلاء يبحثون عن الولاية المطلقة على جميع مسلمي العالم بعد تشييعهم ومن ثم تشييع العالم غير الإسلامي بأسره تمهيداً لتوسع الفارسية وكسر العزلة التاريخية التي تعيشها هذه اللغة. فإذا عمل كل من تاج الملوك وعباسعلي خلعتبري على بناء مدارس ومؤسسات إيرانية خارج البلاد وتشييد المزارات الشيعية في العراق فاليوم يعمل الإيرانيون على توسع المدارس الدينية بجانب المدارس الرسمية ومؤسسات كبيرة وما نشاهده في سوريا ولبنان والخليج خير دليل على ذلك وإذا كان الشاه أراد أن يلقب بشرطي الخليج كمنصة ونقطة انطلاقه لمد سيطرة الفرس على العالم العربي بأسره، فإن الخميني أراد أن يقوم بدور أكبر من ذلك بكثير، وهو دور الجندي الممهّد لعودة الإمام الثاني عشر ليؤسس الدولة المهدوية العالمية بكل ما تحمله من مضامين حسب الفهم الفارسي من المذهب الشيعي.
كما أرى أن إيران لا تستطيع تحمل صعود النجم الخليجي في العقود الآتية وإعادة كفة التوازن العربي الفارسي خاصة بعد غياب دور العراق منذ سنة 2003 ولهذا الدولة الفارسية تعمل ما بوسعها ودون تحفظ على مد سيطرتها على الخليج العربي وكافة دوله ومن الشواهد على كلامي هذا المحاولات الإيرانية المستمرة لإيجاد موطئ قدم فارسي في البلدان الخليجية للحيلولة دون توصل مجلس التعاون إلى دور عربي مستقل برأيه السياسي تجاه ما يحدث في محيطه. نستنتج هنا أن من يعول على الانتخابات الإيرانية المقبلة بغية الحد من الهجمة الفارسية أو هدنة قصيرة المدى وكف الشر الفارسي مؤقتاً على البحرين والعراق وسوريا ولبنان وفلسطين واليمن والنهاية لملامح التدخل في مصر وليبيا وتونس والكويت مخطئ برؤيته هذه. وفي ظل ما تشهده إيران اليوم من صراع محتدم تتباين المواقف تجاه هذا الصراع فبعض المراقبين والمحللين الذين يرفضون فكرة الخطر الإيراني يعتقدون أن التيار المحافظ على علله أخف ضرراً من التيار الإصلاحي يعدون مخطئين برؤيتهم هذه أو متأثرين بإسلام إيران الذي اتضحت ملامحه للعالم.
كما أرى أن نجاح أي تيار إصلاحي كان أو محافظاً في الانتخابات الرئاسية الإيرانية المقبلة لن يغير شيئاً في مبدأ ”الهجوم هو أفضل دفاع” عند الإيرانيين بتعاملهم مع دول الجوار العربي حيث نرى أن التيار الإصلاحي ذو توجه قومي ليبرالي يسعى للهيمنة على الخليج العربي ويميل في طروحاته إلى المعسكر الغربي، ونظراً لوجود قوميين متشددين بين مكوناته فهو أكثر عداءً للعرب أيديولوجياً.
هكذا ليس كما يزعم البعض أن عداء التيار المحافظ للغرب يعني بالضرورة حبهم أو صداقتهم للعرب، هذا إذا لم تكن درجة العداء للعرب لديهم أكبر منها للغرب كما أثبتته الوقائع، فقد تعاونت إيران مع الولايات المتحدة وإسرائيل من أجل تزويدها بالسلاح للاستمرار في الحرب ضد العراق في قضية مكشوفة للجميع ومعنونة في الإعلام الدولي بـ ”إيران جيت”، كما تعاونت معها فيما بعد من أجل احتلال العراق والسيطرة عليه كما ذكرت سابقاً.
والآن الحديث عن صفقة إيرانية أمريكية مرتقبة ضد العرب أصبح أمراً وارداً. كما إن نظام الملالي باستخدامه لشقي القوة الناعمة والخشنة لم يستنفد كل وسائل السيطرة والنفوذ التي يمكن أن يلعبها لتحقيق تطلعاته الاستراتيجية في منطقة الخليج العربي، من هنا يبدو الصحيح هو أن ما فات قد يكون أهون من الآتي. أخيراً بعد هذا الشرح الصحافي البسيط عن السياسة الخارجية للدولة الفارسية نرى أن الثوابت في السياسة الخارجية الإيرانية تتسم في التوسع على حساب الآخرين وذلك عبر انتشار اللغة الفارسية والقمع الفارسي للمذهب الشيعي الاثني عشري وبمتغيرات عدة التي تأتي حسب المعطيات التي تحكم طهران في واقعها المحلي والإقليمي والعالمي.
وتترتب هنا على العرب مسؤوليات كبيرة لردع المد الفارسي وتتمثل هذه المسؤوليات بالعمل المثابر للتسريع بعودة مصر لمعسكرها والممانعة من خطف دور القاهرة في المستقبل القريب لصالح طهران وإقناع الأمريكان بضرورة التوجه لأساليب طهران ومتابعة ملفها النووي العسكري والذهاب بملف إيران في مجال حقوق الإنسان إلى مجلس الأمن خاص فيما يتعلق بانتهاك حقوق الإنسان في الأحواز وذلك بجانب مقارعة الدولة الفارسية وأذنابها في العراق ولبنان وسوريا وفلسطين والأحواز واليمن وليبيا وتونس وجزر القمر وإريتريا ناهيك عن الواجب الحيوي لمجلس التعاون بتبني هذه المقولة ”أمن البحرين ودول الخليج العربي كقاعدة انطلاق المشروع العربي القادم لإعادة كفة التوازن خاص بعيد غياب دور العراق هو خط أحمر” لإيران وللأمريكان ومدعوم بالتواجد الدائم لقوات درع الجزيرة في البحرين وجميع دول مجلس التعاون وعلى واشنطن أن تتهيأ للترحيب بهذا الدور العربي الخليجي.